عمر بنعياش: الإحتفال بكمال عبداللطيف .. إحتفاء بالفكر والفلسفة

عمر بنعياش: الإحتفال بكمال عبداللطيف .. إحتفاء بالفكر والفلسفة كمال عبد اللطيف وعمر بنعياش (يسارا)

نظمت شعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط بتعاون مع مركز روافد للدراسات و الأبحاث في حضارة المغرب و تراث المتوسط " و مؤسسة فهارس لخدمات الكتاب ، ندوة تكريمية للأستاذ كمال عبد اللطيف ، و ذلك يوم الأربعاء 14 ماي2025 بمدرج الشريف الإدريسي قدمت خلالها العديد من المداخلات و الشهادات تضمنها كتاب جماعي بعنوان :" التنوير أفقا " قدم له ذ. محمد نورالدين أفاية . تنشر " أنفاس بريس " النص الكامل لمساهمة الأستاذ عمر بنعياش التي أختار لها كعنوان : "الإحتفاء بكمال عبد اللطيف ، إحتفاء بالفكر والفلسفة ".

 

 

يكتسي الاحتفاء بأشخاص يحضرون في حياتنا العامة أو الخاصة طابع التعبير عن المودة والامتنان والاعتراف بالجميل.

وأنا سعيد جدا بالمشاركة في هذا الاحتفاء البهي رفيع المستوى بأستاذي وصديقي الدكتور عبد اللطيف كمال.

أيتها السيدات، أيها السادة،

نحتفي اليوم برجل هو سيد الاحتفاءات بامتياز، ليس فقط لأنه لا يتأخر عن المساهمة في مبادرة تكريم أي زميل أو صديق ممن جمعتهم به أواصر الصداقة والزمالة والود، بل لحرصه أكثر من ذلك على جمع شهاداته الشخصية فيهم وتوثيقها في إضمامة منشورة تحت عنوان: "كتاب الاحتفاء"، بما في ذلك من مسؤولية أدبية وأخلاقية، لأن مفهوم الشهادة هنا يتجاوز الكلام العابر إلى الوثيقة التي تشهد على صدق المشاعر وطيب السرائر.

نحتفي اليوم بالأستاذ كمال عبد اللطيف المربي والمفكر والكاتب المبدع، اعترافاً بمزايا هذا الرجل وتفرده، وما أنتجه من فكر في حقل ثقافتنا، كما يقول هو نفسه بأن "الاحتفاء بشخص ما إنما هو اعتراف بالجهد والمثابرة المكللين بجليل الأعمال وجميل النصوص والآثار؛ اعتراف بقيم الفكر والإبداع وبأدوارهما التاريخية".

قرأت جل كتبه، وهي عديدة ومتنوعة في مواضيعها، وحتى لو لم أكن أعرف إلا مؤلفيه: "عيون الموناليزا" و"طعم الكلمات.." لظل في عيني مفكراً كبيراً وأديباً أريباً ولبيباً عاقلاً يستحق أكثر من تكريم وأغنى من إطراء.

ولا شك أن كل من قرأ، ولو هذين، الكتابين فقط لوجدهما في منتهى الجمال والعمق؛ فيلسوف يمارس حضوره بأداتين ولغتين: لغة عالمة يضبط مفاهيمها بما يلزم من دقة وصرامة، ولغة شاعرية يرتب مفرداتها بكثير من الوفاء لجماليات اللغة العربية وأسرارها؛ فارس من فرسان الكلمة الداعين لمحاربة الظلام وإيقاد شموع الحداثة والنهضة والفكر والتنوير.

لم يكن ذ. كمال عبد اللطيف صديقي أو زميلي، لأنه لم يكن من جيلي، بل من جيل أساتذتي الأجلاء الذين أكن لهم أيضاً أينما كانوا فيضاً من مشاعر المودة والامتنان والتقدير، والذين أتوجه لهم بهذه المناسبة جميعا بتحياتي الخالصة سواء من حضر منهم معنا اليوم أو من لم تسمح له ظروفه بالحضور.

وقد اخترت أن أتحدث، ولو بشكل وجيز عن علاقة الطالب بأستاذه انطلاقا مما احتفظت به ذاكرتي من جهة، والإشارة باقتضاب إلى كتاباته الإبداعية الجميلة من جهة ثانية، تاركا مهمة الحديث عن منجزه الفكري العام لزملائه وأحبته.

تعرفت إلى الأستاذ كمال عبد اللطيف في سنتي الأولى بالجامعة منتصف السبعينات من القرن الماضي، وكان طموحي آنذاك أن أدرس الفلسفة تأكيدا لشغفي بها منذ المرحلة الثانوية، لكن ظروفا معينة شاءت أن أغير وجهتي إلى علم الاجتماع، برغم أنني لم أنس الفلسفة أبدا، بل شكل ابتعادي عنها باعثاً على الاقتراب منها أكثر، بحيث توطدت علاقتي بها ليس بحضور دروسها، وإنما بمتابعة معظم ما ينتجه أساتذتي فيها.

في تلك الظروف التي تميزت بنشاط ثقافي وسياسي كثيف، تلقيت أول دروسي الجامعية في الفلسفة، خاصة على يد أستاذي كمال عبد اللطيف الذي كان يختص بتعريف الفلسفة ومعنى التفلسف.

كنا شباباً متحفزا للتغيير وثقافته، متشبعا بكتابات يسارية شكلت بالنسبة لي ولعدد من أبناء جيلي بوصلة نستدل بها على طريق الفكر والممارسة.

ما أذكره اليوم أن الأستاذ كمال عبد اللطيف لم يكن غريبا عن هذه الأجواء. كان الأقرب من بين الأساتذة لطلبته بشكل صريح. كان يرحب بأسئلتنا المستوحاة في بعضها أو جلها من قراءات سريعة ومتلهفة أحياناً للأدبيات العربية والأجنبية في مجال الفكر والسياسة، أو من حضور اللقاءات والندوات التي كنا ندمن عليها في تلك المرحلة بتعطش وشغف. وهو كان يدرك هذا التعطش للتعبير عن ذواتنا وما نفكر فيه، وما نصبو إليه.

وما أذكره اليوم كذلك أن الأستاذ كمال عبد اللطيف كان يقابل مجادلاتنا السياسية بلطف حازم، ويحرص على أن يعيدنا "لدهشتنا الأولى" بمهنية واحترافية، وبرقة وسلاسة.

كان يسمح لنا، بخلاف أساتذة آخرين، بالتعبير عن آرائنا بحرية تامة، وينصت إلى مشاغباتنا باهتمام، ويظل يذكرنا بأن الفلسفة ليست حذلقات لغوية أو ترفاً فكريا، بل مسؤولية تدفع إلى التفكير النقدي المتحفظ باستمرار على السرديات المغلقة، ويواجه تعقيدات الحياة والوجود بالحكمة اللازمة، والحرص على عدم اختزالها في إجابات جاهزة، مهما كانت درجة قدرتها على الإقناع.

هكذا أعتقد، صادقاً، أن الأستاذ كمال عبد للطيف أبلى في الإيحاء إلينا، نحن طلبته، بالتوجهات الفكرية والمنهجية السليمة.

وبرغم انشغالي بنضالات الساحة دفاعاً عن مطالب الحركة الطلابية آنذاك، لم أكن أفوت درس ذ. كمال عبد اللطيف أبداً.

كانت تلك أول مرحلة أتعرف فيها إليه، يوم كان الطلبة يحضرون بكثافة مناقشة رسائل وأطروحات أساتذتهم، لتتوطد معرفتي به أكثر من خلال كتاباته وحضوره المائز في الساحة الثقافية المغربية والعربية، إلى ـأن استدعيت ذات مساء للقائه شخصيا من جديد، بعد حوالي أربعة عقود لإحياء مجلة "المشروع"، ولأنضم تحت رئاسته لهيئة تحريرها، مما سمح لي بالتعرف إلى شخصيته عن قرب، والاستمتاع بالجلوس إليه والاستفادة من معارفه في الفكر والسياسة والأدب. وأسعدني كثيرا أن أصبحت ملتزما بزيارته في مكتبه صباح كل جمعة بين الساعة الحادية عشرة صباحاً والواحدة زوالاً، أرافقه بعدها إلى مركز الترويض، وهو يمشي الهُوينا إلى جانبي أو يتكئ أحيانا على مرفقي لتجاوز بعض عثرات الطريق، كانت أحاديثنا التي انطلقت قبل ساعتين في مكتبه تتواصل حول مواد الأعداد المقبلة من "المشروع".

وعلى امتداد أعداد المجلة المذكورة، التي عملنا عليها نحن الاثنين فقط، دون أي دعم أو سند إلا ما كان من عزمه الشخصي، اكتشفت في الرجل عمقاً في التفكير وحنكة في التدبير، وطلاقة في اللسان ولباقة في الحديث، أو على الأصح أنني أعدت اكتشاف خصاله وميزات شخصيته بعين جديدة وزاوية نظر مختلفة.

وفي تقديري أن الأستاذ كمال عبد اللطيف يمارس التفكير سواء أكان في الفلسفة أو الأدب أو السياسة، بوضوح في الفكرة وجمالية في التعبير، واستقلالية عن أي إيحاء أو تأثير مما يجعل إنتاج الأفكار بالنسبة إليه مناسبة للإبداع لا طريقاً للاتباع، دون التفاف على ما يعتبره مهمة المثقف المغربي والعربي المتمثلة أساساً في تنبيه العقل الجمعي العربي المترع بالهزائم إلى مفازاته ومثالبه وأمكنة الزلل والاختلال في تلافيفه.

قد أصيب وقد أخطئ إذا قلت أن الأستاذ كمال عبد اللطيف يظهر لي في صورة مثقف راضٍ وسعيد، وقد أصيب أو أخطئ إذا قلت أنني أراه في أعماقه، على العكس من ذلك مثقفا يسكنه قلق السؤال عن الكون والطبيعة والإنسان والوجود؛ يكلم الطير والبشر والحجر والفراشات والورود البيضاء وكتابه المفضلين وشخوص رواياتهم وأبطالها، وينظر إلى نفسه ويكلمها من خارج ذاته وكينونته، بدليل بعض النصوص المدرجة في "عيون الموناليزا" وعناوينها المنتقاة بعناية:

إضافة إلى عناوين نصوص أخرى من طعم الكلمات كــ :

وهي نصوص صنفها ضمن فصل أسماه: شظايا من سيرة ذاتية.

قدم الأستاذ كمال عبد اللطيف لنصوصه الإبداعية بقوله: "نمارس في مقالات هذا الكتاب قراءة استرجاعية لموضوعات وقضايا مختلفة، بهدف الوقوف على نوعية العلاقة التي تجمعنا بذاتنا في تجلياتها وأحوالها المتنوعة (..) نحرص على وضع اليد في بعض هذه المقالات على جوانب من أوجاعنا وجوانب أخرى من مسرات العين والقلب والعقل، ومسرات الأوهام التي لا نستطيع التخلص منها أيضا (...).

وقد أتاحت لنا الخواطر السانحة بين الحين والآخر إمكانية التحليق في الأعالي بالكلمات، كما مكنتنا الأحلام والصَّبْوات من التغني بالجميل والفاتن ومجالسته والنظر في عينيه".. انتهى كلام الكاتب.

يكتب الأستاذ كمال عبد اللطيف شذراته بلغة سردية جميلة متمنعة عن الرتابة والتكرار، برز فيها كمبدع متأمل وعميق.

وقد أثبت من خلال هذه الشذرات الإبداعية أن للفلسفة وجها آخر غير الذي نعرفه، هو انهمامها بأوضاع وحالات النفس البشرية وأوجاعها وتساؤلاتها الداخلية العميقة، ولعل ذلك ما يجعلني أقترح على إخوتي في شعبة الفلسفة أن يدرجوا هذه "العيون" المترعة شعراً وفلسفة وأحاسيس إنسانية بالإضافة إلى "طعم الكلمات، أحوال ومعاينات" ضمن لائحة القراءات التي يقترحونها على طلبتهم لغناها الأدبي، ولأن من شأنها أن تساعدهم على إدراك معنى العلاقة بين الفلسفة ومشاعر وأوجاع الناس، وكيف يكون الأدب والشعر فلسفة، والفلسفة أدباً وشعراً.

أيها الحضور الكريم

أود في آخر هذه الكلمة أن أؤكد على أهمية هذا الاحتفاء بالفكر والفلسفة ممثلاً في شخصية فكرية وازنة لها حضورها في الحقل الثقافي المغربي والعربي، لأنه يتضمن جوابا على وضع بشري فاقد للبوصلة، بحيث يحتاج ربما إلى كل فلسفات الدنيا لضبط إيقاعه، وذلك لما بدأنا نراه من تغير في طباع الناس وسلوكاتهم؛ بشر يتصرفون خارج وعيهم، ويتحولون بتأثير من وسائط التواصل الاجتماعي إلى مسوخ رقمية يتشكل وعيهم وإدراكهم عبر هذه الوسائط أكثر مما يتشكل عبر دينامياتهم الفكرية الخاصة، مما يعني أن وعينا الجمعي أصبح اليوم في حاجة إلى الفلسفة أكثر من أي وقت مضى.

شكراً أستاذي وصديقي الدكتور كمال عبد اللطيف على كل ما قدمته لطلبتك ومجتمعك العربي مغرباً ومشرقاً، وكن على ثقة أن منجزك سيظل متجذرا في عقولنا فكراً وأدباً وفلسفة، وأن محبتك ستظل مشرقة في أعماق نفوسنا.

شكرا سيداتي سادتي على إصغائكم والسلام عليكم.