نبيل عادل: تازة ليست ضد غزة.. بل ضدكم أنتم!

نبيل عادل: تازة ليست ضد غزة.. بل ضدكم أنتم! نبيل عادل
في بلادٍ يتقن فيها البعض تقليب الشعارات كما تُقلَّب أقراص المسمن البلدي، خرج علينا من جديد الموال المملّ: "تازة قبل غزة". شعار يبدو للوهلة الأولى منطقيًا، عقلانيًا، وطنيًا من العيار الثقيل، لكنه في الحقيقة، لا يعدو أن يكون مزحة ثقيلة بثوب الوطنية، ومغالطة تُخفي وراءها كسلًا معرفيًا، وفقرًا في قراءة الواقع، داخليًا وخارجيًا.
 
فهل فعلاً هناك صراع عدمي بين طريق مزفّت في تازة ومسيرات تضامن يوم الاحد ضد الابادة الجماعية لشعب أعزل؟ هل تُؤجل الدولة المغربية بناء المدارس والمستشفيات في إيموزار من أجل إرسال قافلة سلاح وذخائر للفلسطينيين؟ هل أُجل مشروع طريق سيار واحد أو خط "التيجيفي" من أجل تمويل اعادة اعمارغزة؟ دعونا نضحك قليلًا قبل أن نحزن كثيراً.
 
الواقع، بكل أرقامه ووثائقه، يُكذّب هذا الادعاء. ميزانية تازة (ومراكش، وطنجة، وتمحضيت، وحتى سبت كزولة) تأتي من قوانين مالية ضخمة، معلنة، مصادق عليها، تُناقش في البرلمان – وإن بالنعاس المزمن – وتُنفّذ عبر سلاسل طويلة من البرامج القطاعية والمجالية. أما غزة؟ فلا تتجاوز مساهمتنا فيها بعض قوافل الإغاثة، جملتين في بيان وزارة الخارجية، ومسيرات تضامن يتحمل كلفتها من لا يزال يؤمن بأن الوطن ليس تضاريس ومناخًا، بل مواقف تُشرف من ينتمي إليه. أي أن الدولة تستثمر في تازة بـ99.99%، وتُبقي لغزة 0.01% رمزي، فنأتي نحن ونصرخ: تازة أولًا!
 
حتى من منظور مدرسة الواقعية السياسية التي تعبد "المصلحة الوطنية" كإله لا يُناقَش، هناك تكامل ضروري بين التموقع الدولي والانخراط التنموي لتعزيز نفوذ الدولة. كبار اللاعبين في الساحة الدولية – من أمريكا إلى الامارات – ينفقون الملايير في قضايا خارجية لا لوجه الله، بل لأن الرمزية السياسية أرخص من الجيوش، وأقوى من الرصاص. المغرب، في هذا الباب، يفعل ذلك على استحياء، ويربح الكثير بثمن بخس: تعاطف شعبي وحضور رمزي ومصداقية أخلاقية لا تُشترى بالبترودولار.
 
القارئ المتعمّق في الفكر الواقعي – لا من اكتفى باقتباس يتيم من كينيث والتز– يدرك أن رجل الدولة، متى تعارضت أولويات الداخل مع رهانات الخارج، لا يبحث عن أقرب كاميرا ليردد "تازة أولًا"، بل يزن الأمور بميزان القوة والبقاء. عليه أن يقدّم ما يُحصّن الدولة ويحمي أمنها ومصلحتها الوطنية – حتى وإن اقتضى ذلك، في لحظة استراتيجية، التضحية بمكسب داخلي لصالح تموقع خارجي يضمن البقاء والهيبة على المدى الطويل. لأن الواقعية، ببساطة، لا تعترف إلا بما يُبقي الدولة واقفة في عالم بلا رحمة، لا بما يُرضي النقاشات الفيسبوكية الفارغة.
 
لكن المفارقة أن أنصار "تازة قبل غزة"، وهم يُلوّحون بهذا الطرح تحت راية الواقعية، لم يقرأوا فيها سوى عنوانها. فهم يختزلونها في عبارة مسطحة: "الداخل قبل الخارج"، كما لو أن الدولة تُدار بترتيب أولويات على جدول Excel. بينما الحقيقة – التي تعري جهلهم – أن الواقعية لا تقرّ بقداسة الداخل ولا الخارج، بل تُقدّم ما يخدم الدولة من حيث الكلفة والجدوى: مرّة يكون مشروعًا قرويًا، ومرّة يكون موقفًا في الأمم المتحدة. من يُنكر ذلك، لم يفهم الواقعية... بل خانها وهو يظن نفسه من فرسانها.
 
ومن الطريف – أو المأساوي – أن أكثر من يرفع شعار "تازة قبل غزة" يفعل ذلك متسلّحًا بما يتوهمه فهماً "واقعيًا" للعلاقات الدولية. فتراه يُلوّح لك بكتاب هانز مورغنتاو (ويضعه بجانب كوب قهوة كما لو أنه فهم العالم في جلسة إنستغرامية)، أو يُردّد كلمات مثل "السيادة"، "المصلحة"، و"البراغماتية" كما يردد الأطفال نصوصاً قصيرة في مسابقة تحفيظ جماعي. هؤلاء الواقعيون – بنسختهم المغربية – يُصرّون على أن المغرب يجب أن ينكفئ على نفسه، وألا يتورط في "قضايا لا تعنيه"، لأن السياسة، كما يقولون، لا تقام على العواطف.
 
جميل. فلنطبق الواقعية إذن، ولكن فعلاً لا ادعاءً.
خيّل نفسك مستشارًا في البيت الأبيض، مكلّفًا بملف الشرق الأوسط. لديك على الطاولة أربعة مرشحين لتحالف استراتيجي طويل الأمد مع الولايات المتحدة:
المرشح (أ): بلدٌ فيه سوق استهلاكية تتجاوز 100 مليون نسمة، موقعه يتحكم في قناة السويس، ويُعد بوابة لإفريقيا.
المرشح (ب): دولة عضو في الناتو، تمتلك جيشًا صناعيًا قويًا، ولها علاقات تجارية متشعبة بين الشرق والغرب.
المرشح (ج): تكتل من الدول يملك أكبر احتياطي نفطي في العالم، ومستعد لشراء كل شيء... من الطائرات إلى البنتاغون نفسه.
المرشح (د): بلدٌ صغير، بلا نفط، بلا سوق داخلية حقيقية، ولا موقع استراتيجي حاسم، لكنه يُكلّفك سنويًا مليارات الدولارات... وتُلام عالميًا حين تدعمه.
من تختار؟ المنطق الواقعي يقول (أ. مصر) أو (ب. تركيا) أو (ج. بلدان الخليج)...

لكن البيت الأبيض يختار (د. إسرائيل) .إسرائيل، التي لا تتوفر على نفط، ولا على سوق استهلاكية ضخمة، ولا على موقع استراتيجي يتجاوز حجمها الجغرافي، تحظى بتمويل سنوي بالمليارات، وتُحمى سياسياً في كل المحافل، وتُعفى من تطبيق القرارات الدولية، وتُموَّل حتى حروبها، في غزة أو في غيرها، من دافعي الضرائب الأمريكيين. فهل هذا "واقعي"؟ طبعًا لا، إلا إذا فهمنا أن الواقعية السياسية لا تُقاس بالدولار فقط، بل بالدلالة الرمزية، والامتداد الأيديولوجي، والوزن في الخيال الجمعي، لأنها جميعاً عناصر قوة الدولة. إسرائيل ليست حليفًا نافعًا، بل فكرة توراتية مغروسة في الوعي الديني والسياسي الأمريكي. إنها استثمار في سردية، لا فقط في تحالف.
 
المفارقة هنا أن الواقعية الحقيقية تُجبرك على فهم التوازن بين المصالح المادية والرمزية. فالدول لا تتحرك فقط بدافع الربح والخسارة، بل بدافع الرسائل التي تبعثها، والصور التي ترسّخها. ولهذا، فإن دعم المغرب لغزة هو رسالة: نحن جزء من عالم له قضاياه، وله ذاكرته، وله بوصلته الأخلاقية. الواقعية لا تعني الانكفاء على الذات، بل تعني الفهم المتعدد للأدوات الممكنة لخدمة الدولة. من ذلك، مثلاً، أن دعم القضية الفلسطينية في المغرب يُحصّن شرعية الدولة داخلياً، عبر تقاطعها مع وجدان الشعب. وهو أيضًا ورقة ضغط رمزية تُستخدم عند الحاجة في المحافل الإقليمية، ووسيلة تموقع ذكي في نادي الدول التي ما تزال تتشبث بمبادئ العدالة، ولو كحد أدنى من "الدبلوماسية الأخلاقية". أما من يردّد الواقعية كتعويذة لدفن القيم، فهو كمن يستخدم ميزان الحرارة لقياس الجمال، ويظن نفسه قد فهم العالم.
 
والأنكى أن هذا المنطق لا يصمد حتى أمام تحاليل العلاقات الدولية البدائية. النظريات الليبرالية – التي يبغضها هؤلاء لأنها "ناعمة أكثر من اللازم" – تذكّرنا بأن الدول ليست فقط كيانات مادية، بل أعضاء في شبكات قيمية ومؤسساتية حديثة ومعقدة. المغرب، حين يدعم فلسطين، لا يُصرف شيئًا من ميزانية تازة، لكنه يشتري مكانًا مميزاً على طاولة العلاقات الدولية. إنه يراكم احدى عناصر القوة، الا وهي القوة الرمزية للدولة. تلك التي لم تفرّط، لا في القدس ولا في الدم المسفوك ظلماً باسمها، وإن فعل غيرها.
 
أما النظريات البنيوية، فتؤكد أن الدولة ليست فقط "ما تملك"، بل "ما تعتقد أنها تمثل". والهوية المغربية، كما صاغها الدستور والخطاب الملكي والمخيال الشعبي، لم تكن يومًا محايدة تجاه فلسطين. بل إن دعم القضية الفلسطينية عنصر تأسيسي في خطاب الدولة الحديثة، لا زائدة دودية يمكن استئصالها عند أول أزمة طريق قروي غير معبد.
 
ثم تأتي النظريات النقدية، لتسخر – إن نطقت – من هذا النوع من الواقعيين الذين لا يقرؤون حتى نظرياتهم. تلك النظريات (ما بعد كولونيالية، نسوية، تحليلية، ماركسية) تشرح لنا كيف أن الالتزام بقضايا الجنوب العالمي، ومنها فلسطين، هو شكل من أشكال مقاومة الهيمنة الغربية، وهو بيان رمزي يؤكد أن السيادة لا تُختزل في تدبير القمامة، بل تشمل المواقف من القضايا الانسانية.
 
فالبراغماتية الحقيقية تُدير التناقض ولا تلغيه. تُراكم الرمز والمصلحة، دون أن تقوض مكان الامة في التاريخ وتجعل الأجيال القادمة تخجل من مواقف آباءها. والمغرب، حين يساند فلسطين، يفعل ما تفعله كل الدول التي تعرف أن الأمم تُبنى على التموقع الدولي، خاصة في القضايا العادلة، لا فقط على قوانين المالية.
 
الخلاصة؟ أن من يختزل القضية الفلسطينية في صراع مع "ميزانية الطرق القروية" لا يفهم الدولة، ولا يفهم الأمة، ولا يفهم حتى تازة. من يريد أن يُطوّر تازة فليطالب بتوزيع عادل للثروة، بحكامة محلية، بربط قرى المغرب بالإنترنت وبأن نحتفل جميعاً بآخر أُمِّيٍ في بلادنا. لكن لا يختبئ خلف غزة ليُبرّر عجزه، أو خلف فلسطين ليُمارس علينا وطنيته المشروطة.
 
فغزة ليست خصم تازة، بل مرآتها الأخلاقية. ولو تعارضت حقًا مصالح تازة مع نصرة غزة، لاخترنا تازة ألف مرة – لا حبًا في الجغرافيا، بل وفاءً لأمانة الأجداد. ومن يخاف على تازة، عليه أن يناصر غزة. أما من يُخيّرك بينهما، فقد نسي أن القلب يتّسع لتازة وغزة معًا. فالوطن ليس مفاضلة بين قريتين، بل التقاء في الضمير بين العدالة والانتماء.