كان الرجل يتكلم بهدوء رغم عباراته المشحوذة والجارحة، دون أن تفارق ابتسامة التشفي شفتيه، وبدا هدوءُه شبيها بذلك الصمت المطبق الذي يَسبِقُ العواصف، كما نقول في أدبياتنا، إلا أنه أقسم أن يجعلهم فرجة للداني والقاصي!!
بيد أنّ الذي يهمنا، في هذه الحدّوثة، أن جيراننا الشرقيين لا ينفكّون يصنعون الفرجةَ أمام الملأ، ناشرين غسيلهم الوسخ في كل الاتجاهات، لا لشيء، سوى لأنهم لم يتلقَّوْا التربية اللازمة، ولم يتعلموا فنون المخاطبة، فبالأحرى أن يتفقّهوا في مجالات الحوار والنقاش والمناظرة... ولذلك نراهم على الدوام منهمكين خلال سحابات أيامهم في اللمز والسب والشتم لأنهم لم يتغَذَّوْا على غير ذلك، ولا يملكون بالتالي أيَّ خيار آخر، وهم الذين قال رئيسهم وقدوتُهم، ذات هذيانٍ إعلاميٍّ، "إنه يمسك بحجر يخفيه وراءه، وهو على أتمّ الأُهْبَة لتوجيهه إلى رأس أي نفر يخرج عن الصف"... فياله من تعبير "مخملي" و"راقص" (!!!) وخاصةً عند خروجه من فم رئيس جمهورية ديمقراطية وشعبية (يا حسرة على الديمقراطيا والشعبية)!!
الذي يهمنا ها هنا أيضاً، أن هؤلاء الجيران المَتاعيس يوشكون أن يتم تصنيفهم عالميا كشعب عدائي، وعدواني، وليس فقط كشعب مشاغب كما هي شعوب غير قليلة، منها على سبيل الاستئناس جماهيرُ "الهوليغانز" البريطانيون، الذين دوّخوا العالم وقلبوا رأساً على عقب مقولة "الدم الإنجليزي البارد"، وهي المقولة التي كانت تَستنِد في حقيقتها على درجةِ الوعي العام والراقي لدى البريطانيبن، والتي تجعلهم ينأون عن التشنجات والخصومات المفرغة من أي محتوى، ومن أي جدوى... كنت أقول، إن شعب ذلك الجار التَّعِس بات على درب التصنيف في أسوء خانة عرفها تاريخ البشرية وأشدِّها سَواداً، لأنه الشعب الوحيد الذي إذا فرح كسَّر وحطّم، وإذا حزن كسّر وحطّم، وإذا لم يُصِبْهُ أي شعور واضح يكسّر أيضاً ويحطّم... حتى بات هو ذاتُه شعاراً للتحطيم والتدمير، بالكلمة، والفعل، أما النوايا فأفعاله وسلوكاته المرَضية تُفْصِحُ عنها وتعرّيها بكل الوضوح اللازم!!
ها نحن الآن أمام "مدرسة قائمة الذات" في سوء الخُلُق، وفي الإتيان بكل ما من شأنه أن يُثير القرف والاشمئزاز، ولا شيءَ غيرَ القرفِ والاشمئزاز، وكل هذا لم يأت من فراغ، ولا هو آتٍ بضربة حظّ عاثر، بل قد شكّل على مدار أكثر من نصف قرن مادة دراسية تُحشى بها رؤوسُ أبناء الجزائر منذ طفولتهم الصغرى، في الأقسام التحضيرية، وأسلاك الابتدائي والثانوي، قبل أن تترسخ كلّياً تحت أسقف الجامعات، والكليات، والمعاهد، مصحوبةً بما لذّ وطاب من الغبرة البيضاء، وحبوب الهلوسة، وقناني الخمرة الرديئة والتي تستنكف الشركاتُ المنتجةُ من بَذاءتِها وانحطاطِ جودتِها فتضعها قيد التداول في أكياس بلاستيكية، تماماً كما كان بقّالو الزمن الغابر في الضواحي والهوامش يقدّمون لزبائنهم أكياس زيت الزيتون المخزّنة لديهم في براميل معدنية، فكانوا يبيعون منها لطالبيها بالتقسيط!!
بيت القصيد في هذا المقال، إذَنْ، هو شعب تربى على اعتبار ذاته أفضل من باقي شعوب المنطقة، بل أفضل من شعوب العالم قاطبة، وهذا ما يعبِّر عنه الجزائريون أنفسُهم باصطلاح "النيف"، ولكنه "نيف" قائم على الكذب في التاريخ، وفي السياسة، وفي الدبلوماسيا، وفي الاقتصاد والاجتماع، في الثقافة والفنون، وفي الرياضة، وفي مجالات المال والاعمال... باختصار شديد، شعب يمارس الكذب ليل نهار، ثم يجد نفسه من جرّاء طول الممارسة أول المصدّقين بما ينتجه من الافتراءات، غير أنه لسوء حظنا نحن المغاربة أنّ قدرنا وضعنا معه في الجوار، وجعلنا نستقبل يوميا، وعلى مدار الساعات والدقائق، أكثر مما تلقّاه ذلك الإعلامي المصري، الذي بدأنا بغضبته هذه المقالة!!
لقد علّمنا جيرانُنا أولئك أنهم يصرخون كثيراً، ويضجّون كثيراً، ويصخبون في كل الاتجاهات كثيراً... فما أشد الوجع الذي ينتابهم ليلَ نهارَ كلما قارنوا واقعهم بواقع جارهم المغربي أولاً، ثم بواقع الأمم العريقة التي لها تاريخ، ولها ثقافة وطنية متميزة تعفيها من سرقة تراث الغير وإبداعاته!!
اصرخوا إذَنْ، وازدادوا صراخاً يا جيران السوء، فواللهِ إن الآتي سيكون أشد إيلاماً، ما دام منطق الأشياء يقول: "إنما تكون شدّةُ الصراخ على قدر شِدَّةِ الألم"!!!