اغتنمت الحكومة اليوم الوطني للتبرع بالأعضاء وأعلنت نيتها في أن تتبرع بعضوين أساسيين من الجسم الاجتماعي: التعليم والصحة. وإذا كنا نعرف أن لرئيسها قصة شخصية مع خوصصة التعليم، فإننا لا نستغرب أن يشعر بنفس «العطف» على الصحة ونفس النية في تحويلها إلى القطاع الخاص.
وهو ما يعبر عنه بوضوح، وبدون أن يرف له جفن، معتبرا أن الدولة ما هي إلا «مساعدة اجتماعية» للقطاع الخاص الذي عليه أن يتولي بشكل حر ونهائي كل ما يتعلق بالجسم الاجتماعي.
الغريب أن ذلك تزامن مع تصريحات الناطق الرسمي باسم الحكومة الذي أعلن أن الإضرابات العامة تهدد السلم الاجتماعي.
نحن نعرف أن النقابات والهيآت المهنية وغيرها سلمت بهذا السلم طيلة 15 سنة، بدون أن تضع السياسة العمومية أمام سؤال الوجود من العدم.
ولم ير الناطق الرسمي للحكومة سوى نتائج السياسة التي قادت إليها الحكومة النيوليبرالية، التي تتقنع تحت قناع أصولي، بدون أن يعير الأسباب الحقيقية وراء هذا الغضب الانتباه المروري لفهم حقيقة ما يجري.
في الواقع نهاية السلم الاجتماعي مكتوبة في الجينات الوراثية للحكومة، فهي جاءت لتقضي على هذا السلم. أولا من خلال التنكر للمفاوضات الاجتماعية، ثانيا من خلال القرارات اللاشعبية التي حركت سياستها. يعرف المتتبعون للوضع الاقتصادي للبلاد أنه إذا كانت هناك مقارنة ما يجب القيام بها، بين هذه الحكومة وغيرها، فالمقارنة لا تصح إلا مع السياسة التي اتبعتها مارغريت تاتشر، في الثمانينيات من القرن الماضي.
وهي السياسة التي عرفت، وقتها، بالإجهاز على حقوق النقابات، قبل الانتقال إلى حقوق العمال.. وملاحقة أي مطلب اجتماعي أو حقوقي.
وقد وصفها وقتها نايجل لوسن، الاقتصادي والخبير الشهير الذي رافق السياسة التاتشرية بالقول إن «السياسة الاقتصادية للمحافظين الجدد يجب أن تستند إلى عمودين: التفكير في النقود، الحرية التامة للسوق ضدا على تدخل الدولة وعلى التخطيط الممركز». ولم يكن بنكيران اليوم سوى النسخة ما بعد الدستورية لليبرالية المتوحشة، كما عاشتها أوروبا وتركتها بعد عقدين.
يصعب أن نتحدث عن سلم اجتماعي، في الوقت الذي تعتبر النقابات عدوا لا بد من تقزيمه. ويصعب أن نتحدث عن سلم اجتماعي في الوقت الذي يسمح للمهربين بإرجاع أموالهم، ويتم منع الفقراء من الاستفادة من مجهودات الدولة. ويصعب الحديث، أيضا، عن سياسة اجتماعية، في الوقت الذي يعلم فيه رئيس الحكومة بأنه غير معني بتاتا بالتعليم والصحة.
لقد تساءلنا في بداية عهد هذه الحكومة، بغير قليل من الدهشة: لماذا ترك الحزب الأغلبي القطاعين الرئيسيين، أي التعليم والصحة في الحقائب الحكومية لغيره، في الوقت الذي ركز حملته الانتخابية على الملفات الاجتماعية؟ ا
لآن يتضح أن للأمر علاقة بالمشروع النيوليبرالي المتوحش الذي يشكل الخلفية الاجتماعية للحكومة الحالية.
لقد وصف العالم الاجتماعي الشهير أنطوني غيدنز التاتشرية بالقول إنها تتميز بـ «أصولية السوق»،!! والسلطة الأخلاقية، كما عشناها مع التدخل في الحياة الشخصية ومحاولة العودة إلى النظام المعنوي القديم للمجتمعات الفيودالية، في تركيبة عجيبة مع «الفردانية الاقتصادية» المفرطة.
ومن المميزات الأساسية، أيضا، التسليم بأن سوق الشغل هو بدوره سوق قابل للخوصصة والتسليم بالتميز والفروق الاجتماعية..
ولما قال بنكيران إن الدولة محصور دورها في مساعدة القطاع الخاص، لم يكن في الحقيقة يعاكس ما قاله صديقنا غيدنز وهو يعرف التاتشرية بأنها تجعل «من الدولة حبلا للمساعدة»!
إن من اللاأخلاقي في القضية أن يتم تحميل المتحدثين باسم العمال والشغيلة والأطياف المجتمعية الدنيا مسؤولية انهيار السلم الاجتماعي، في الوقت الذي تصر الحكومة على تلغيم كل منافذ الدورة الاجتماعية بالقنابل.
والتاريخ سيسجل على كل من يقود البلاد إلى البركان!