"تامغربيت".. تعاقد جديد بين الملك والشعب

"تامغربيت".. تعاقد جديد بين الملك والشعب

شكل موضوع الاعتزاز بالانتماء الوطني، أو بـ "التمغربيت" كما في لساننا الدارج، إحدى اللحظات القوية في الخطاب الذي ألقاه الملك محمد السادس، أمس الجمعة، في افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الرابعة من الولاية التشريعية التاسعة.

مصدر القوة متأت، أولا، من الطبيعة الخاصة لهذه الدورة المحاطة بسياق سياسي واجتماعي يعرف الكثير من مظاهر الاحتقان بعد تواصل الهجمات على القدرة الشرائية للمواطن، وتجميد الحوار الاجتماعي، وانسداد العمل السياسي، وضحالة الحصيلة التشريعية... كما هي محاطة باستمرار التوترات العاصفة بكيانات الدولة في المحيط الإقليمي والعربي والدولي. ومصدر القوة يعود، ثانيا، إلى كون الدورة تنعقد على مقربة من إجراء استحقاق الانتخابات المحلية والجهوية، وما سيترتب عنها من انبثاق معادلات جديدة في طبيعة إدارة الشأن المحلي، وفي ظهور هيئات وتوازنات جديدة. وتبرز أهمية الموضوع، من جهة ثالثة، في كون الاعتزاز بالشعور الوطني ينبغي أن يكون، وفق الخطاب الملكي، هو الإطار السياسي والأخلاقي الذي يضبط سلوك المغاربة، فاعلين سياسيين واجتماعيين ومواطنين بشكل عام، تجاه الرهانات والتحديات المطروحة على الكيان المغربي بمختلف مؤسساته وأطيافه السياسية والاجتماعية.

في هذا الإطار نبه الخطاب الملكي إلى ما معناه أن الاعتزاز ليس ترفا هوياتيا، و"لا يباع ولا يشترى، ولا يسقط من السماء" كما ورد في الخطاب بالضبط، ولكنه مقام سياسي وأخلاقي يلزم المغاربة، في مختلف المواقع، بـ "دفتر تحملات" يؤسس لتعاقد اجتماعي ملزم لكل المتعاقدين. وفي مقدمة بنود هذا الدفتر ما يخص الفاعل السياسي، وعموم المواطنين على قدم المساواة.

لقد وضع الخطاب الملكي، في المستوى الأول، ذلك الفاعل أمام مسؤولياته الحقيقية في ضرورة مطابقة الخطاب للسلوك، وفي تمثل جسامة المسؤولية المناطة به، سواء كنائب برلماني، أو كمستشار جماعي، أو كعضو في الحكومة، وغيره من المعنيين بتنفيذ السياسات الحكومية، وفي الرقي بالممارسة السياسية لتتجاوب مع انتظارات المواطن، وتعيد له الثقة في المؤسسات، وفي العمل السياسي وذلك بإنضاج الممارسة والتعامل مع الاستحقاقات ونتائجها بنزاهة، وليس باعتبارها ريعا سياسيا أبديا. وفي هذا الإطار توجه الملك إلى جميع الفاعلين السياسيين بالسؤال: "ماذا أعددتم من نخب وبرامج، للنهوض بتدبير الشأن العام"؟ كما دعا المواطنين، في المستوى الثاني، إلى تحمل مسؤولياتهم عبر تجسيد مفهوم المواطنة الحقة، "بالانخراط في كافة مجالات العمل الوطني، وخاصة من خلال التصويت في الانتخابات، الذي يعد حقا وواجبا وطنيا، لاختيار من يقوم بتدبير الشأن العام".

كان واضحا إذن أن خطاب أمس ينهج نفس الرؤية الواقعية التي طبعت الخطابات الملكية في الآونة الأخيرة، القائمة على تفادي لغة الخشب، واعتماد فضيلة النقد والنقد الذاتي، واعتبار المغرب ورشا مفتوحا أمام رهانات كبرى لا يمكن أن تكتمل ما لم يتحمل جميع المغاربة مسؤولياتهم التاريخية.

قوة الخطاب لها بعد إقليمي كذلك يتمثل، هذه المرة، في الربط الضمني بين الاعتزاز بالانتماء إلى المغرب، وما يجري في محيطنا الإقليمي، خاصة ما تتعرض له وحدتنا الترابية من تحرشات يقترفها البلد الجار. من هنا فالتأكيد الملكي على هذا الربط يعني أن "التمغربيت" ليست فقط رهانا مغربيا خالصا، لكنه رهان إقليمي حاد. وهو ما يفيد رسالة واضحة لكل من يعنيه الأمر: إننا مغاربة معتزون بانتمائنا المشترك إلى هذا الفضاء الجيو-ستراتيجي، وشاكرون الله على ما يمثله الاستثناء داخل هذا الفضاء، ولذلك كان من الطبيعي أن يتكاثر حسادنا الذين ينعمون بالخيرات المادية، وبشساعة الأرض، لكنهم بؤساء من حيث استيعاب درس التاريخ، ومن حيث افتقارهم للثروات اللامادية، وضمنها أن يشعر المغربي بسعادته على هذه الأرض.

إن الجزائر لا تعادي فقط بمواقفها تجاه المغرب روابط التاريخ والجغرافيا والثقافة المشتركة، لكنها تعادي نفسها بتماديها في إغلاق سبل الحوار، وفي رفض إطار متوازن للمصالحة بين البلدين.

إن تفعيل "التمغربيت"، سلوكا وخطابا، هي وصفتنا لتجاوز حالات الارتباك التي تعيق تطور مجتمعنا، وهي كذلك وصفتنا للاستمرار في مجابهة الخصوم، وفي قدرتنا على إنجاح هذه المجابهة، لا فقط لأننا أصحاب قضية عادلة، ولكن لأن كل مواطن مغربي يجب أن يشعر بالقوة وبالفعل بأنه "مغربي... وبخير".

فهل يستوعب كل من يعنيه الأمر في الداخل والخارج مضمون هذا الدرس الجديد في الوطنية؟