حين نقرأ بعض تقارير الهيئات الحقوقية أو المتابعات الإعلامية المتعلقة بتطورات واقع حقوق الإنسان في المغرب نصعق إلى درجة الغثيان، نقرأه لا لأن الوقائع المدرجة بخصوص هذا الواقع، وما يكتنفه من حديث عن خروقات تهم منع التظاهر، أو ممارسة التعذيب، أو العسف والشطط في استعمال السلطة، على قدر بالغ من الخطورة، ولكن لأن بعض التقارير والمتابعات (المغربية والأجنبية) تعطي الانطباع كما لو أنها تتحدث عن بلد آخر غير المغرب الذي نستفيق يوميا على سمائه وأرضه وهوائه، بلد بعيد لم يراكم أية مكتسبات، ولم ينشئ أية مؤسسات، ولم يعرف مخاضات عسيرة كلفته غلافا زمنيا قاهرا، وأرواحا وتضحيات جساما، ولم يشهد دستور 2011... بل إن تلك التقارير تصور الخروقات التي تطال حقوق الإنسان اليوم كما لو أنها صناعة مغربية خالصة. والحال أن المغرب مثل غيره من دول العالم قد خطى خطوات ملموسة في هذا المجال.. وخلال ذلك الخطو سيكون من الطبيعي أن تعتري سيره نواقص عديدة ذاتية وموضوعية، بعضها يعود إلى حداثة التجربة الحقوقية في بلادنا، والبعض الآخر يعود إلى أعطاب الانتقال الديموقراطي المتعثر، وإلى مختلف تمظهراته، سواء على مستوى التطبيق الإداري حيث لا يزال تترسخ لدى البعض تقاليد سلطوية عريقة، أو على مستوى ما قد يصدر عن "جيوب" لا تزال تحن إلى سنوات الرصاص. ولذلك تقتضي الموضوعية النظر إلى الواقع ببعض التنسيب الضروري لفهم وقراءة الظواهر. وفي هذا الإطار لا ينبغي إسقاط الموقف السياسي الراديكالي تجاه المؤسسات القائمة على الموقف الحقوقي، لأن السياسة مجال الممكن المتغير، فيما الحقوق والحريات هي مجال الثابت المبدئي الذي لا يخضع لتغيرات الطقس السياسي، ولأهوائه المرتبطة بالمزايدات السياسوية أو الاعتبارات الانتخابية أو غيرها. كما لا ينبغي أن ننظر إلى واقعة محصورة في زمن ومكان ما، ومحكومة بسياق محدد ما، على أنها المنظر العام لأن الواقعة ليست هي الواقع بالضرورة.
إننا لا نريد أن "نجير" حائط جهة ما. لكننا ندافع عن سقف الوطن وصورته التي بناها المغاربة على امتداد تاريخنا الحديث عبر قواه الديمقراطية والوطنية، منذ الصراعات الأولى حول شرعية الحكم في فجر الاستقلال، ومنذ إطلاق "المسلسل الديموقراطي" في سبعينيات القرن الماضي وصولا إلى اليوم. ولذلك فإن ما تحقق في مغرب اليوم ليس منة من أحد، وليس كرامة أولياء صالحين عثرنا عليها في مكان ما في التاريخ أو الجغرافيا، ولكنه ثمرة نضال وتوافق بين كل مكونات الشعب المغربي التي تملك على قدم المساواة حق الفخر بالانتماء إلى هذا المغرب الناهض.
لقد تحققت للمغرب، بالفعل، ترسانة تشريعية هامه في مجال حقوق الإنسان، وتم بموازاة ذلك إنشاء المجلس الوطني لحقوق الإنسان والمندوبية الوزارية لحقوق الإنسان. كما تم الإعلان رسميا عن طي صفحة الماضي الأليم وجبر الضرر المادي والمعنوي للأغلبية الساحقة من ضحايا سنوات الرصاص. وكل هذه الدينامية أثمرت التحولات العميقة التي عبر عنها النص الدستوري، والتي تنتظر أن يتم بلورتها على مستوى التنزيل والتطبيق لتتطابق النصوص مع الواقع. ومع ذلك لا يعني كل هذا التحول إننا "قطعنا الواد ونشفو رجلينا"، وأننا صرنا السويد أو النرويج أو الدانمارك. لكننا أيضا لسنا إثيوبيا أو الجزائر أو كوريا الشمالية.
ومع ذلك مرة أخرى، فإن التوتر داخل المجال الحقوقي يسجل حضوره حتى داخل الدول الكبرى التي قطعت أشواطا هامة في بناء التجربة الحقوقية الكونية. لقد تم منع بعض التظاهرات التضامنية مع غزة في فرنسا، على سبيل المثال، بسلطة القانون، دون أن يعتبر ديمقراطيو وحقوقيو تلك البلاد بأنها تراجع عن الحقوق والحريات. وفي باريس وحدها تم سنة 2013 منع تنظيم 28 تظاهرة مقابل الترخيص بتنظيم 3500 تظاهرة. وتم في مدينة فيرغسون بولاية ميسوري بالولايات المتحدة الأمريكية، مؤخرا وفي عز النهار، اعتداء أودى بحياة شاب أسود من طرف رجال الأمن، ومع ذلك لا أحد هناك يتحدث عن نكسة الحقوق الكونية. وكذلك الحال في إنجلترا التي أعلن رئيس وزرائها أن الحريات تنتهي داخل الشارع العام، حين يتم خرق القانون. وها هي أوروبا كاملة تطور ترسانتها التشريعية والقانونية، مع اعتماد الإجراءات الأمنية والقانونية المشددة لمواجهة احتمالات الإرهاب القادمة، دون أن يعلن اتهام من المجتمع باغتصاب حريات التنقل أو التجمع أو غيرها.
كل هذه الأمثلة المنتقاه من خارج سياقنا الوطني تؤكد أن وتيرة حقوق الإنسان لها فضاؤها الممتد، لكنه المحدود في نفس الوقت بمقتضيات دينامية الحياة التي لابد أن يعتريها خلل ما في جهة ما، وكذلك الحال في المغرب. وبهذا الخصوص، فإن ما ينبغي عمله هو الالتفات إلى ما يحدث من خروقات حقيقية بتوضيح سياقه، ومواجهته ضمن الآليات التي يتيحها لنا القانون. وفي مقدمة هذه الآليات التوجه نحو القضاء من أجل التدليل في الميدان على سلامة هذه المؤسسة، واختبار مدى أهليتها واستقلاليتها، وفضح كل تقصير في هذا الجانب.
إننا نعتبر أن إنضاج التجربة الحقوقية المغربية ليست فقط مسؤولية وزارة العدل أو الداخلية، أو غيرها من المصالح الحكومية المرتبطة بالموضوع، وليست فقط مسؤولية المؤسسة التشريعية، ولكنها أيضا مسؤولية المجتمع بروافده الجمعوية والإعلامية. وهو ما يعني أن لا مكان لمقاعد التفرج في مسلسل البناء، فالكل يقوم بدوره التاريخي من الموقع الذي يوجد فيه، والكل ينبغي أن يحاسب حول التقصير الذي قد يطال أداءه في هذا المستوى أو ذلك. كما يعني ذلك أمرا جوهريا: الحرص على إنجاح تجربة التحول التي يعيشها المغرب، ومواجهة الأعطاب بروح المستقبل، وبفضيلة ممارسة النقد والنقد الذاتي، لكن بمنظار المغرب الآن وهنا، لا بمنظور الآخر الذي يريد أن يجعلنا رهائن في تصوره للمنظومة الكونية لحقوق الإنسان.