وفاء لنساء ورجال التعليم الذين أنقذوني من المحرقة! 

وفاء لنساء ورجال التعليم الذين أنقذوني من المحرقة!  عبد الرحيم أريري
في عام 2002، كان يفترض أن أكون جثة مفحمة بسجن سيدي موسى بالجديدة. ولكن مشيئة الله أرادت أن أكون حيا أرزق، بل وأكون مدير جريدة.
 
ففي أحد أيام نونبر 2002 (إن لم تخني ذاكرتي)، كنت منهمكا في أحد الملفات المقرر أن ندرجها في هيأة التحرير بأسبوعية "البيضاوي" -التي كنت أديرها- إذا بأحد أصدقائي بمدينة الجديدة يتصل بي هاتفيا ويخبرني أن فاجعة حلت بالجديدة: حريق مهول بالسجن التهم العشرات من السجناء.
 
أجريت للتو مكالمات مع مصالح عمومية بالعمالة والوزارة والوقاية المدنية، فتأكدت لي صحة المعلومة التي زودني بها صديقي، وقيل لي من طرف مسؤولين: السلطات ستنشر بلاغا رسميا بعد لحظات.
تسمرت أمام شاشة الحاسوب أنتظر صدور بلاغ رسمي بوكالة "لاماب".
بالفعل، صدر البلاغ وصدرت معه لائحة أسماء الضحايا.
 
لأول مرة في حياتي المهنية يتجمد الدم في عروقي، ليس لهول الفاجعة، فمهنة الصحافة تجعل المرء (مثل الطبيب الشرعي بالمشرحة)، يستأنس بالدم والجثث والفواجع، بل لأن لائحة الضحايا تضمنت اسما كان زميلا لي في مرحلة الدراسة الابتدائية والإعدادية بحي سيدي البرنوصي بالدار البيضاء وكان ضمن الجثث المفحمة في حريق السجن. ولكي أقطع الشك باليقين، اتصلت هاتفيا بعون سلطة (مقدم) كانت لي علاقة صداقة معه (المرحوم صالح الذي توفي مؤخرا). فرد علي الفقيد/ المقدم صالح رحمه الله: "نعم سي أريري، إن الاسم الذي تسأل عنه هو ضحية الحريق. وها نحن ننصب لُوثاق (خيمة العزاء) الذي أمر به سيدنا الذي تكلف بواجب العزاء لكل الضحايا".
 
لم أدرس مع المرحوم صديقي في كل المستويات، بل كانت طبيعة الحي تسمح بنسج العلاقة مع الآخر بسهولة. فحي البرنوصي كانت له آنذاك خاصيتان: الأولى أنه كان حيا غير مأهول بالسكان (كان البلوك والباطيما العوجا وديور الملكية فقط). بينما الخاصية الثانية تتجلى في أن حي البرنوصي كان "خارج الشمس". وبالتالي، كان خارج رادار الدولة، ولم تنتبه السلطات للبرنوصي إلا بعد انتفاضة جوان 1981.
 
كنت وزميلي الضحية (وزملاء آخرون كذلك لا أتوفر على ترخيص لإدراج أسمائهم في هذا المقام)، نتميز بشغب كبير بكل مؤسسة تعليمية حللنا بها. لكنه لم يكن شغبا إجراميا، بل ربما شغبا مرتبطا بالتمرد على "الحكرة" التي كنا نشعر بها في الحي (مثل الحكرة التي يحس بها اليوم شباب دوار الهراويين أو الرحمة أو مولاي رشيد أو ليساسفة أو جنان اللوز أو دوار التقلية أو دوار خيزو أو كاريان حربيلي). وبالتالي، لما كنا لا ننضبط لقواعد ما بهذه المؤسسة التعليمية أو تلك، فإن رسالتنا كانت موجهة للدولة التي "حكراتنا"، ولم تكن إطلاقا موجهة للهيأة التعليمية او التربوية.
 
وهذا هو بيت القصيد. أنا كنت محظوظا بأساتذة رائعين تحملوا حمقنا وشغبنا وجنوننا. بينما صديقي الذي تفحمت جثته بالسجن لم يكن له ذلك الحظ ليلتقي بأستاذ يقوده إلى بر الأمان. أذكر أني كنت قاب قوسين أو أدنى من الطرد من ملحقة ثانوية المختار السوسي بالبرنوصي (حاليا أصبحت إعدادية بتراب حي الشباب). لكن أستاذي في اللغة العربية آنذاك (الأستاذ المتوكل) انتفض وواجه الإدارة بأن الجرم الذي ارتكبته لا يرقى للطرد، و"جوج تصرفيقات" كافية لرد الأمور إلى نصابها.
بالفعل، دعاني الأستاذ المتوكل أنا وزملائي المشاغبين إلى منزله ببلوك فريد قرب مقهى آيت برايم بالبرنوصي، وكانت تلك الدعوة وذلك اللقاء بمثابة المنعطف في حياتي الشخصية والمدرسية.
 
كان الأستاذ المتوكل رجلا فاضلا وبيداغوجيا، مارس طقسا سحريا علينا بشكل جعل حياتنا تنقلب من الشغب إلى حراسة النظام بالمؤسسة، بل وإلى قوة اقتراحية في المبادرة. وهي المبادرة التي شجعها الحارس العام للثانوية وصقلها باقي الأستاذات والأساتذة الذين احتضنونا بثانوية المختار السوسي حتى اجتزنا بنجاح وسلام امتحان الباكلوريا الذي أجريناه بثانوية ابن العوام بعين السبع.
 
أذكر، أنني وزملائي ب"مدرسة المشاغبين"، ما أن "خدينا الباك"، حتى قصدنا منزل الأستاذ المتوكل لنشكره على الدور الذي لعبه في مسارنا، إذ بفضل نباهته وذكائه ومسؤوليته التربوية ما كان لي أن أحظى بفرصة ثانية لتذوق طعم الحياة. وبدونه لكان اسمي مكتوبا في اسم شاهد قبر لضحية حريق بسجن، بدل أن يكتب اسمي كصحفي في جينيريك جريدة "الاتحاد الاشتراكي"، ثم من بعد في جينيريك أسبوعية "البيضاوي" و"الوطن الآن" و"أنفاس بريس".
وهذا ما يجعلني مدينا إلى الأبد لكل نساء ورجال التعليم بالمغرب.
فتحية ووفاء لكل من علمني. واحترامي لكل أستاذة أو أستاذ أنقذ تلميذا من الحرق في السجون.
 
ملحوظة:
كتبت هذا النص قبل سبع سنوات، إذ نشرته بتاريخ 10 نونبر 2017.
اليوم، توجد الكثير من الدواعي والأسباب لإعادة نشره أمام استمرارتبخيس صورة رجل التعليم في البرامج التلفزية، وأمام استمرار الحكومة بعدم إعطاء رجال ونساء التعليم المكانة التي يستحقونها في المجتمع، بالنظر إلى وظائفهم النبيلة لصناعة المستقبل وإنقاذ أجيال البلاد.