خالد الادريسي: انتخابات المحامين كآلية للدفاع عن الدفاع وضمان الأمن المهني

خالد الادريسي: انتخابات المحامين كآلية للدفاع عن الدفاع وضمان الأمن المهني الدكتور خالد الادريسي

تعتبر مهنة المحاماة من المهن التي تتمتع بالاستقلالية في تدبير شؤونها العامة والخاصة طبقا لمعايير التنظيم الذاتي الذي يعطي للمهن الحرة الاهلية والاختصاص من اجل تدبير أمورها ذاتيا وبشكل مستقل عن الدولة والسلطات العمومية، ولو انها تبقى في بعض الأحيان خاضعة للرقابة التي تمارسها الدولة سواء عبر التشريعات والقوانين التي يمكن ان تصدر وتمس جانبا من الجوانب المهنية، أو عن طريق الرقابة القضائية التي يقوم بها القضاء على قرارات السادة النقباء ومجالس الهيئات. ولكن كيفما كان الحال فإن مهنة المحاماة انطلاقا من عدة معطيات تتعلق بالتاريخ والرمزية وامتلاك نسائها ورجالها لناصية الأسلحة القانونية والحقوقية ، تبقى هي الوحيدة ضمن المهن القضائية والقانونية التي مازالت تحافظ على استقلالها بمعناه الحقيقي ، من خلال مختلف الأدوار التي تقوم بها مؤسسة النقيب ومؤسسة مجلس الهيئة ، والتي تجعل المحامي كفرد محصن ومستقل عن تدخل أي جهة أخرى غير مؤسسته المهنية في سلوكه المهني ، بعكس مهن أخرى سواء كانت من داخل منظومة العدالة أو من خارجها التي فقدت استقلالها وأصبحت تابعة بشكل مباشر أو غير مباشر للجهات الإدارية والقضائية التابعة للدولة .

 

وتبقى الانتخابات المهنية للمحاماة الية هامة وحاسمة في تحديد النخب المهنية القادرة على تدبير الشؤون العامة للمحامين ، على أساس أن تكون هذه النخب قادرة تحمل المسؤولية والدفاع عن استقلالية وحصانة مهنة المحاماة على المستوى الفردي والجماعي ، والحفاظ على المكتسبات التي تحققت وتدعيمها ، ولذلك فإن المناسبة الانتخابية التي يتم تنظيمها في دجنبر من كل ثلاث سنوات تبقى مهمة ليس فقط في انتخاب قيادات جديدة ستتحمل مسؤولية تدبير الشأن المهني ، ولكن بالأساس لأن الاختيارات التي يتم بلورتها من طرف الجمعية العمومية أو الكتلة الناخبة انطلاقا من هذه الآلية الديموقراطية هي التي سترهن مصير مهنة المحاماة ومصير المنتسبين اليها في المستقبل القريب ، وربما يكون التأثير أيضا حتى على المستقبل البعيد لأن بعض القرارات والتدابير يبقى تأثيرها الإيجابي والسلبي مستمرا مع الزمن ولو أنه صدرت وتبلورت في مرحلة معينة مهما كانت بعيدة على المستوى الزمني والتاريخي .

 

وينبغي التأكيد في هذا الصدد على أن المرحلة الحالية من الزمن المهني هي من الحساسية والخطورة بمكان، انطلاقا من معيار الازمات المتكررة والمتوالية التي عاشتها مهنة المحاماة طيلة مدة الولاية المهنية الحالية التي تشرف على الانتهاء ، أو بناء على معيار التهديدات التي ماتزال تتربص بمهنة الدفاع على المستوى الحقوقي والتشريعي والاقتصادي والاجتماعي . ولذلك فإن المرحلة تحتاج الى نخب وقيادات مهنية من نوعية خاصة تجمع ما بين خصائص القوة والجرأة والشجاعة من جهة أولى ، وأيضا الالتزام بالمسؤولية وتوطد الهم المهني داخلها وإعطائه الأولوية من جهة ثانية ، ومن جهة ثالثة وأخيرة هو التكوين الجيد والالمام بالاشكاليات ذات الطابع المهني في مختلف المجالات المرتبطة بالمهنة ، وتكوين تصورات حول الحلول والمقترحات التي يمكن ان تجسد حلول لتدبير الازمة التي تعيشها مهنة المحاماة في الوقت الحالي ، وبلورتها في اطار مذكرات وعرائض ترافعية دفاعا عن الدفاع وعن القضايا الفردية والجماعية المرتبطة بمهنة الدفاع .

 

فاذا كان ما ذكر أعلاه يسجد الصورة الأساسية للشأن المهني العام على المستوى الوطني، وبالنظر الى أن الانتخابات المهنية تعتبر آلية أساسية للدفاع عن الدفاع وفي خلق قيادات مهنية جديدة قادرة على الخروج من الازمة والحفاظ على المكتسبات، فإن تساؤلين هامين يطرحان بحدة في إطار النقاش العام المهني الذي تزداد أهميته على هامش كل جمعية عمومية انتخابية وهو المتعلق بماهية التحديات التي تنتظر مهنة المحاماة على المستوى الجماعي والفردي في المستقبل القريب؟ ثم ماهي المعايير التي يمكن الاستئناس بها لاختيار القيادات المهنية الجديدة سواء على مستوى مؤسسة النقيب أو مؤسسة مجلس الهيئة التي لها من الكفاءة ما يجعلها قادرة على تدبير هذه التحديات الكبيرة التي تواجه مهنة المحاماة حالا ومستقبلا؟

 

يمكن التأكيد بالنسبة للتساؤل الأول على أن مهنة المحاماة تعاني من عدة إشكاليات تشكل تحديات حقيقية وتهديدات كبيرة للمبادئ الأساسية التي تقوم عليها، وهي إشكاليات ذات طبيعة مختلفة منها ما يتعلق بالجانب التشريعي واخر يتعلق بالجانب المؤسساتي، وثالث يرتبط بالمجال الاجتماعي، وأخير وليس آخرا يتعلق بالجانب الاقتصادي . فعلى المستوى التشريعي نرى على أن هناك العديد من مسودات ومشاريع القوانين التي باتت تهدد استقلالية وحصانة المهنة وتنقص من أدوارها داخل منظومة العدالة ، فاذا سجلنا على المستوى الشكلي على أن وزارة العدل منذ ان اصبح على رأسها زميلنا الأستاذ عبد اللطيف وهبي وهي تتعامل مع الجسم المهني للمحاماة ومؤسساتها التمثيلية بنوع من التعالي ، ولا تحترم المقاربة التشاركية التي أكدها ورسخها الدستور وأصبحت مبدأ أساسيا من مبادئه التي لا تقبل التنازل أو الاستبعاد ، فإنه على المستوى الموضوعي فإن هذه المسودات والمشاريع تشكل تهديد حقيقي لمستقبل مهنة المحاماة بالمغرب ولمكتسباتها التي راكمتها ورسختها عبر عقود من الزمن ، فعلى مستوى مشروع قانون المسطرة المدنية نجد على أنه تضمن العديد من المقتضيات التي تمس مكتسبات مهنة المحاماة في العمق وتؤثر سلبيا على الممتهنين لهذه المهنة من خلال تضييق مجال عملهم عن طريق رفع السقف المالي للقضايا التي يتم البت فيها ابتدائيا واستئنافيا الى مبلغ 40.000,00 درهم بدل 5.000,00 درهم ، وهذا يعني انه ليس هناك أي الزامية لوجود المحامي في القضايا التي تصل الى مبلغ 40.000,00 درهم ، وبالتالي يمكن للشخص نفسه ان يتقاضى لصالحه ، او ان يستعين بكاتب عمومي او مكتب استشارة قانونية او مكتب تحصيل الديون او بمهن أخرى أصبحت تزاحم مهنة المحاماة في مجموعة من الاختصاصات كالمفوضين القضائيين والعدول . مع العلم أن عدد القضايا التي لا تتجاوز هذا المبلغ ربما يوازي نصف عدد القضايا الرائجة بالمحاكم ، وهي القضايا التي يستفيد منها اغلب المحامين ، وبالتالي فإن هذا التعديل يضر بمهنة المحاماة لأنه ينتقص من اختصاصاتها ومهامها بطريقة ضمنية وغير مباشرة ، وأيضا يؤدي الى تكريس بطالة مقنعة لغالبية المحامين الذين يمارسون المساطر التي لا تتجاوز قيمتها هذا المبلغ المالي ، كما سيؤدي الى اعطاءالصفة الى مجموعة من المهن القانونية وغير القانونية الى التكالب على القيام بمهام المحاماة تحت هذا الغطاء القانوني الجديد الذي اصبح يسمح لهم بالقيام بذلك من دون ان يكونوا قد ارتكبوا أي جريمة او مخالفة . وعلى مستوى آخر ، فيما يتعلق بمسودة قانون مهنة المحاماة ، او ما أصبح يعرف " بالمسودة المسربة " ، فقد جاءت بالعديد من المقتضيات التي ستمس بشكل مباشر او غير مباشر بالمهنة ، سواء من خلال تقزيم دور مؤسسة النقيب ومؤسسة مجلس الهيئة بالمقارنة مع تعاظم مؤسسة النيابة العامة التي اصبح يمكنها التدخل للقيام باختصاصات النقيب بعد مرور أجال معينة ، او من خلال القيام بطعون ستؤثر سلبيا على المجال التأديبي في مجال الممارسة المهنية للمحاماة ، كما ان لم تأتي هذه المسودة بأي مكتسب بخصوص المطالب الأساسية للمحامين المتعلقة بتوسيع مجال المهام والاختصاصات ، اذا انها لم تستحب لمطالب المتعلقة باجباري نيابة المحامين على الدولة والإدارات العمومية ، وأيضا راوغت بخصوص المطالب المتعلقة باجبارية نيابة المحامي على الشركات التجارية من خلال إقرارها فعلا ولكن بخصوص الشركات التي يبلغ رأسمالها مبلغ 5.000.000,00 درهم ، وهو ما يجعل هذا التعديل شكليا وفارغا في محتواه ، لأنه التف على مقترحات المحامين بهذا الخصوص . ومن بين اكبر التحديات التي طرحتها هذه المسودة هو ما يتعلق بالسماح لشركات المحاماة الأجنبية والمحامين الاجانب بالممارسة بالمغرب بشروط ميسرة وسهلة، وهو ما سيضع المحامين وشركات المحاماة المغربية في حرج منافسة شركات اجنبية عملاقة ومتخصصة في تقديم خدمات قانونية ذات جودة عالية . وهناك امثلة كثيرة ومتعددة عن مقتضيات واحكام تشريعية خطيرة على الممارسة المهنية للمحاماة في مسودات أخرى لا يتسع المجال لذكرها ووجب الحذر منها لانتقاصها من مكتسبات مهنة الدفاع.

 

وعلى المستوى المؤسساتي، فإن مسودة مشروع قانون معهد المهن القانونية والقضائية وكتابة الضبط جاءت بمجموعة من المقتضيات التي تؤثر سلبيا على استقلالية مهنة المحاماة في الجانب المتعلق بالتكوين الأساسي للمحامين المتمرنين أو بالتكوين المستمر للمحامين الرسميين ، فإحداث هذا المعهد المختلط كان التفافا صريحا على التزام الدولة الذي التزمت به منذ قانون المحاماة لسنة 1993 باحداث معهد تكوين خاص بالمحامين تموله الدولة ويشرف عليه المحامين ، الا اننا تفاجئنا بهذه المسودة التي أحدثت هذا المعهد وجعلت تدبيره من الناحية الإدارية والمالية والبيداغوجية والتأديبية من اختصاص مجلس اداري ومجلس بيداغوجي تتحكم فيه وزارة العدل ، وهو ما قد يؤدي الى المساس باختصاص المؤسسات المهنية للمحاماة واستقلاليتها في تدبير محال التكوين الأساسي او ندوة التمرين بكل ما تحمله من رمزية بالنسبة لجميع المحامين ، كما سيكون هناك ضرر مالي من خلال تسقيف الواجب المالي عن طريق القانون وانقاص قيمته وحرمان الهيئات من تحديده وبالتالي حرمانها من مبالغ مهمة تساعدها على تدبير شؤون المحامين الإدارية والاجتماعية ، كما ان هذه المسودة مست باختصاص الهيئات في مجال التخليق والتأديب ، اذ ان هذا الاختصاص اصبح موكول للجنة تأديبية من المعهد تتكون من ممثلين من خارج الجسم المهني للمحاماة ، وبذلك يتضح على أن مسودة قانون معهد المهن القانونية والقضائية وكتابة الضبط لا تقل في استهدافها لمهنة المحاماة على ما جاء في مشروع قانون المسطرة المدنية ومسودة مشروع قانون مهنة المحاماة .

 

وفي جانب آخر يرتبط أيضا بالجانب المؤسساتي دائما ، نجد ان المشرع يحاول احداث مجلس وطني للهيئات أو مجلس وطني للمحامين يمثل المحامين على المستوى الوطني ، ويكون عبارة عن مؤسسة مهنية رسمية منظمة بمقتضى قانون ، تحل في اختصاصاتها وادوارها محل جمعية هيئات المحامين بالمغرب المحدثة في اطار ظهير 1958 المتعلق بإحداث الجمعيات ، والتي لم تعد لها تلك المكانة الرمزية والحقوقية التي كانت عليها ، كما ان دورها التنسيقي بين الهيئات السبعة عشر لم يبقى مفعلا ، لا سيما بعد إنسحاب هيئة المحامين بالدار البيضاء من مكتبها ، وعدم التزام الهيئات الأخرى بتنفيذ العديد من قرارتها بشكل اضر بصورة الجمعية ودورها التاريخي كاطار موحد وقائد لباقي الهيئات . ورغم انه يمكن الاجماع على ان جمعية هيئات المحامين بالمغرب دورها انتهى كاطار تدبيري للمهنة ، وانه يمكن ان تبقى لها أدوار حقوقية ورمزية غير مرتبطة بالتدبير والتسيير المرتبط بالشأن المهني العام ، فإن احداث المجلس الوطني للهيئات او للمحامين لا يمكن اعتباره عصا سحرية ستحل جميع إشكاليات تدبير مهنة المحاماة على المستوى الوطني ، بل انها قد تكون الية مهنية تمس بالاستقلالية لاسيما اذا لم يتم ضبط نظامها من الناحية الهيكلية أو على مستوى الاختصاصات ، بل ان الخشية الكبرى هو أن تذهب الأمور في اتجاه ما وقع في المجلس الوطني للصحافة التي سينتقل تحديد رئاستها من نظام التنظيم الذاتي والالية الانتخابية الى نظام التعيين ، وبالتالي فمهما كانت هناك وعود باعطاء ضمانات نحو ترسيخ الاستقلالية  على مستوى المجلس الوطني لهيئات المحامين ، فإنه ليس هناك ضمانات للحفاظ عليها لاسيما ان التوجه العام في جميع التشريعات الجديدة التي تحاول الدولة ارسائها سواء على المستوى الموضوعي أوالمسطري أوالمؤسساتي كلها تذهب في اتجاه الانتقاص من الاستقلالية التي كانت دوما وابدا الأساس التي تقوم عليه مهنة الدفاع .

 

اما على المستوى الاجتماعي فإن نظام الحماية الاجتماعية وان كان مهما في تقديم حماية اجتماعية بالنسبة لعدد كبير من شرائح المجتمع المغربي، فإنه لا يبدو بنفس الأهمية بالنسبة للجانب الاجتماعي للمحامين الذين يتوفرون على تعاضدية اثبتت انها قادرة على تقديم تغطية صحية في المستوى تطلعات المحامين، وتعتبر بحق من اهم المكتسبات التي راكمها المحامين في العقدين الماضيين . وعلى الرغم من أن المحاماة أصبحت معفية بعدما لم يصدر المرسوم الخاص بها، مع العلم ان اخر اجل لاصدار المراسيم المنزلة لنظام الحماية الاجتماعية كان بتاريخ نهاية دجنبر 2022 ، ولعدم صدور المرسوم الخاص بمهنة المحاماة داخل هذا الاجل تكون هذه الأخيرة معفية من نظام الحماية الاجتماعية ومحافظة على تعاضديتها . لكن رغم ذلك نلاحظ ان الدولة مازالت متربصة بالمحامين في هذا الاطار من خلال محاولتها فرض نظام الحماية الاجتماعية بطرق ملتوية ، عن طريق استعمال نظام المساعدة القضائية والمبالغ المخصصة لها في هذا الاطار من اجل تسهيل اقناع المحامين بالانخراط في نظام الحماية الاجتماعية ، وهذا المقترح في حقيقة الامر هو مقترح مرفوض ليس فقط لانه سيعدم التعاضدية العامة لهيئات المحامين بالمغرب باعتبارها مكتسب كبير في المجال الاجتماعي ، ولكن لان نظام الحماية الاجتماعية جاء بمجموعة من المقتضيات التي تمس باستقلالية المحاماة مؤسسة وافراد من خلال فرض جزاءات وعقوبات تتعارض مع طبيعة مهنة المحاماة وتمس باستقلالية المؤسسة المهنية في الرقابة الحصرية على المحامين . ولكن مع ذلك ينبغي علينا رغم نجاح التعاضدية في ضمان تغطية صحية في المستوى ، أن يتم تطويرها في اتجاه ترسيخ نظام تقاعد يستطيع ان يحمي المحامين من غدر الزمن في حالة عدم القدرة على ممارسة المهنة بشكل عادي ومتواصل .

 

وبالنسبة للمجال الاقتصادي في المهنة   فإن هذا الامر يرتبط بأمرين جوهريين ، الأول يتعلق بالترافع الفعال من اجل ضمان توسيع مجال اختصاصات ومهام المحامين ، فرغم ان مشروع قانون المسطرة المدنية ومسودة مشروع قانون مهنة المحاماة جاءا بمقتضيات تعاكس هذ التوجه ، الا ان الوقت مازال لتدارك المطالبة والترافع من اجل الحصول على هامش كبير من توسيع مجال اختصاصات ومهام المحامين ، سواء في القانونين المذكورين أعلاه ، او في قوانين أساسية أخرى كقانون المسطرة الجنائية مثل حضور المحامي اثناء البحث التمهيدي وفي مخافر الشرطة القضائية ، او في قوانين أخرى خاصة قد تكون فرصة لزيادة وتوسيع الاختصاصات التي يمكن ان يمارسها الزميلات والزملاء وتزيد من فرص النماء الاقتصادي بالنسبة اليهم . بينما الجانب الثاني يتعلق بالمجال الضريبي الذي أحدث ازمة كبرى بين المحامين والدولة انطلاقا مما ورد من مقتضيات في قانون المالية لسنة 2023 التي حاولت فرض مقتضيات جديدة على ميدان المحاماة في المجال الضريبي ، بناء على التصور الجديد للدولة في التعامل مع المهن الحرة ومع الطبقة الوسطى التي تحاول تحميلها مسؤولية إعادة التوازن للمجتمع في المجال الاقتصادي والاجتماعي . وفي نهاية المطاف فان مقتضيات قانون المالية الجاري به العمل او حتى قانون المالية المقبل لسنة 2024 يجب ان يتم التعامل معه بطريقة حذرة من خلال الترافع بشكل دائم حول ضرورة إقرار نظام ضريبي يراعي طبيعة مهنة المحاماة التي تقوم على الجانب الحقوقي والإنساني والاجتماعي ، وأيضا يراعي حجم الازمة الاقتصادية وقلة فرص العمل التي تعاني منه شريحة كبيرة من المحامين ، والتي لا يمكن الزيادة في استفحالها عن طريق تكريس مقتضيات قانونية ضريبية ظالمة لمهنة المحاماة وللمنتسبين اليها الذين لا يكادون يوفرون سوى الحاجيات الأساسية في الحياة لهم ولاسرهم .

 

فاذا كانت هذه جزء من التحديات المطروحة امام مهنة المحاماة في الوقت الحالي وفي المستقبل القريب ، واذا كانت هذه التحديات تحتاج الى قيادات مهنية ملمة بحجم الإشكاليات المطروحة من الناحية الحقوقية والقانونية والتقنية ، وقادرة على بلورة تصورات قادرة على مجابهة ما يحاك ضدها قانونيا ومؤسساتية واقتصاديا واجتماعيا ، والحفاظ على المكتسبات التي تضمن وتؤمن الاستقلالية والحصانة للمهنة . فما هي يا ترى الشروط والمعايير الأساسية التي يمكن الاستئناس بها من اجل اختيار هذه القيادات المهنية التي ستكون مسؤولة عن تدبير الشأن المهني في الثلاث سنوات المقبلة ؟

 

لقد سبق التأكيد على أن هناك ثلاث معايير أساسية من الضروري توفرها في كل من يريد ان يترشح للمساهمة في قيادة الشأن المهني العام للمحامين ، وهي القوة والشجاعة والجرأة ، ثم الايمان باولوية الشأن المهني على أي أولويات أخرى ، وأخيرا تكوين والمام باشكاليات الشأن المهني تمكن من وضع تصورات ومقترحات وتنزيلها ، ولنقم بتفصيل هذه المعايير الثلاث حتى تتوضح الصورة بشكل افضل .

 

فبالنسبة للمعيار الأول المتعلق بالقوة والشجاعة والجرأة ، فإن مواجهة التحديات الراهنة تتطلب توفر هذه المعايير ، سواء كانت المهنة في حالة استقرار او في حالة ازمة ، وسواء كانت في حالة تفاوض او في حالة حراك مهني ووقفات واضرابات . انها مبادئ لابد منها لاعادة الاعتبار لقيم المهنة ولمكانتها الاعتبارية على جميع المستويات وعلى كافة الأصعدة ، ولذلك فان الحياد السلبي واللاموقف والاختباء وراء المجموعة والانتظارية وركوب الأمواج كلها أمور غير متطلبة في الوقت الحالي لأننا امام مرحلة مفصلية نكون فيها او لا نكون ، وتتطلب اختيار معايير موضوعية تتطلب المبادئ الثلاث المشكلة للمعيار الأول . ولكن في نفس الوقت فان الامر يقتضي استبعاد كل من لا يراعي المعايير الأخلاقية ولا يحافظ على اداب المجالس ويقوم بتسريب كل ما يروج داخل المجالس في تعارض مع سرية هذه الأخيرة ، وفي تضاد وتنافي مع الاخلاق التي يجب ان تكون هي الأساس التي تنطلق منه قوة وشجاعة وجرأة العضو الذي يتحمل مسؤولية تدبير الشأن المهني العام ، فلا يمكن لهذه المعايير ان تكون موجودة اذا كان الشخص فاشلا وعديم الاخلاق .

 

أما بالنسبة للمعيار الثاني فهو المتعلق بترسخ وتوطد الهم المهني في ضمير ووجدان الشخص المرشح لعضوية المجلس ، بحيث انه يجب ان يضع مساهمته في تدبير الشأن المهني على رأس الأولويات بشكل يوازي أو أكثر الشؤون المرتبطة بمكتبه الخاص أو حتى بأسرته . فالالتزام بتحمل مسؤولية النقيب والمجلس بكل الثقل الذي تفرضه هذه المسؤولية يفرض القيام بمجموعة من التضحيات المادية والمعنوية التي من الأكيد انها سيكون لها تأثير سلبي على المجال الخاص للمحامي الذي نال ثقة الجمعية العمومية ، ولكنها تضحيات ضرورية وواجبة مادام ان هذا الزميل قد وضع نفسه تحت تصرف مهنة المحاماة النبيلة . فالامر شبيه بالرهبان والقساوسة الذين يخصصون كامل حياتهم لخدمة الكنيسة وما يرتبط بها من معتقدات دينية ، في نكران للذات وفي تخلي عن كل ملذات الحياة ومغرياتها . نعم قد لا يصل الامر الى هذا الحد من الالتزام والخضوع لمهنة المحاماة ، ولكن المفروض هو ان يكون العمل داخل الهيئات عملا مقدسا مطبوعا بطابع الجدية والمسؤولية والالتزام المطلق ، وان لا يكون التزاما ثانويا يأتي في مرتبة متأخرة من أولويات الأستاذ الذي حصل على الثقة وتحمل مسؤولية تدبير شؤون المحامين ، وان لا يكون مجرد ترف أو مجرد طموح لحمل صفة نقيب او صفة عضو مجلس من دون التقيد بما تفرضه هاتين الصفتين من التزامات ومسؤوليات خطيرة وعظيمة .

 

اما بالنسبة للمعيار الثالث والأخير ، فيرتبط بالتكوين الجيد الذي يجب ان يكون عليه من يتحمل مسؤولية داخل المؤسسة المهنية ، هو تكوين لا يرتبط بالجانب الاكاديمي او الحصول على شهادات عليا أو دبلومات جامعية ، بقدر ما هو تكوين ذاتي يجمع بين التجربة المهنية والاطلاع على القوانين والتجارب المقارنة ، هي تجربة بالأساس تتمخض عن طريق النهل مختلف العلوم أيضا على التجارب التي تأخد من افواه الرجال في الندوات والمؤتمرات والأيام الدراسية  . وهذا التكوين الرصين هو الذي يساعد كل من يتحمل مسؤولية تدبير الشأن المهني على فهم كنه الإشكاليات الحقيقية التي تعاني منها مهنة المحاماة ، وأيضا على وضع وبلورة تصورات تكون قادرة على إيجاد حلول كلية أو جزئية للاشكاليات المطروحة . وبحسب تجربتي المتواضعة في مجال تدبير الشأن المهني على مستوى مجلس هيئة المحامين بالرباط أو مكتب جمعية هيئات المحامين بالمغرب ، فإن أكبر عائق أو اشكال كان يقف عائقا امام الحصول على مكتسبات هامة للمهنة وللمحامين ، هو غياب القوة الاقتراحية في الكثير من التدابير والقرارات ، وعلى سبيل المثال ، على مستوى تدبير جمعية هيئات المحامين بالمغرب للعديد من القضايا الكبرى ذات الطابع الوطني ، فان في الكثير من الأحيان كنا نواجه قرارات وتدابير وقوانين الدولة بالرفض ، ولكننا لا نبادر الى اقتراح بدائل او حلول موازية ، وبالتالي فاننا كنا نعجز على المبادرة ونكتفي برد الفعل فقط ، وحتى رد الفعل غالبا ما كان يذهب في اتجاه التصعيد الميداني عن طريق الوقفات والاضرابات ، وهو شيء محمود طبعا ، ولكنه كان سيكون اجمل لو كانت لدينا قوة اقتراحية عبر مذكرات ترافعية في كل مجال من المجالات التي تهم الشأن المهني تتضمن الحلول والتصورات الواقعية التي من شأنها تطوير المهنة والحفاظ على حصانتها واستقلاليتها وقوتها ورمزيتها ، وان يكون ذلك في اطار الفعل وليس رد الفعل الذي نرتكن اليه دوما ، بشكل يؤكد ضعفنا وعدم قدرتنا على الدفاع عن الدفاع وعلى ضمان الامن المهني .