أحمد الحطاب: التَّنوُّع البيولوجي في القرآن الكريم (الجزء الأول)

أحمد الحطاب: التَّنوُّع البيولوجي في القرآن الكريم (الجزء الأول) أحمد الحطاب
أنشر هذه المقالة مساهمةً مني في إحياء اليوم العالمي للتَّنوُّع البيولوجي الذي يصادف يوم 22 مايو من كل عام. أنا شخصيا، أفضِّل أن أتحدَّثَ عن تنوُّع الحياة عوض التَّنوُّع البيولوجي لأنه، كما سنرى فيما سيأتي في هذه المقالة، القرآن الكريم يشير إلى تنوُّع الحياة. وحتى كلمة biodiveristé مشكَّلةٌ من بادئة préfixe وهي bio التي تعني حياة ومن لاحقة suffixe وهي diverité التي تعني تنوُّع. هذه المقالة سأنشرها على مرحلتين، أي جزء أول وجزء ثاني. إليكم الجزء الأول.
إن مفهومَ تنوُّع الحياة أو ما يُسمَّى حاليا التَّنوُّع البيولوجي مفهومٌ حديثٌ حيث ظهر إلى الوجود خلال الثمانينيات وتمَّ تكريسُه في النصف الأول من التَّسعينيات إثرَ اتفاقية دولية انبثقت عن مؤتمر ريو سنة 1992. والمقصود من التَّنوُّع البيولوجي هي الخاصية التي تتميَّز بها الحياة لتظهر في الطبيعة حسب أنواع و أشكال عديدة ومختلفة. وجدير بالذكر أن هذا التَّنوُّع يظهر على جميع مستويات التَّدرُّج البيولوجي hiérarchie biologique بداً بالخلايا والأنسِجة و الأعضاء ومرورا بالأجسام والانواع والجماعات.
والتَّنوُّغ البيولوجي ضروري لاستمرار الحياة إذ، بواسطته، تستطيع الكائنات الحية أن تواجهَ التَّغيُّرات التي تحدث في الأوساط التي تعيش فيها، بصفة خاصة، وفي البيئة، بصفة عامة. وهكذا، كلما كانت المنظومات البيئية écosystèmes غنيةً بأنواع وأشكال الحياة، كلما كانت لها القدرة على التَّصدِّي لتلك التَّغيُّرات. وهنا، لا بدَّ من الإشارة إلى أن النَّنوُّع البيولوجي واحد من العوامل الأساسية التي تساهم في التَّنظيم الذاتي للمنظومات البيئية لضمان توازنها واستمرار الحياة بها.
ولعل أكثرَ الكائنات الحية تنوُّعا، هي الحشرات متبوعة بالنباتات ثم الكائنات اللافقرية والمِجهرية ثم الأسماك ثم الثدييات ثم الزواحف والضفدعيات وأخيرا الطيور. وقد تم تقديرُ كمية هذه الكائنات بما يُناهز 40000000 نوع لم يتمكَّن الإنسانُ، إلى حد اليوم، إلا على التَّعرُّف على ما يناهز 2000000 نوع، أي بنسبة تتراوح بين 4 و 5% من مجموع الكائنات الحية،  نباتا كانت أم حيوانا. وبالطبع، هذه نسبة ضعيفة جدا بالمقارنة مع العدد الإجمالي لهذه الكائنات،  علما أن هذه الأرقام تقريبية قد تكون أكثر أو أقل من ذلك.
إن هذا التَّنوُّعَ الهائل في أنواع وأشكال الحياة أشار إليه اللهُ سبحانه وتعالى في القرآن الكريم في العديد من الآيات. وقبل إعطاء بعض الآيات التي تشير إلى التَّنوُّع البيوبوجي، أُريد أن أُلحَّ على أن الفرآنَ الكريم ليس كتاب علوم بالمفهوم الدنيوي. فيه فقط إشارات إلى بعض الظواهر الطبيعية دون الدخول في تفاصيلها النظرية. من بين الآيات التي فيها إشارة للتَّنوُّع البيولوجي، أذكر على سبيل المثال ما يلي :
1."وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (المائدة، 17). الإشارة للتنوع البيولوجي في هذه الآية متضمَّنةٌ في "يخلق ما يشاء"، أي له القدرة على خَلقِ كل شيء حيا كان أم جمادا.
 
2."وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُوا إِلَىٰ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكُمْ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (الأنعام، 99). في هذه الآية، الإشارة للتنوُّع البيولوجي متضمَّنةٌ في "نبات كل شيء". لكن ما يُثيرُ الإنتباهَ في هذه الآية، هو أن كلمات "أعناب"، "نخل"،"زيتون" و"رمان"، كلمات واسعة المعنى، أي أنها تشمل كل أنواع العنب وكل أنواع النخل وكل أنواع الزيتون وكل أنواع الرمان. وهذا شيءٌ بيَّنَه العلمُ الحدبث من خلال البحث. هذه الكلمات كلمات جامعة  noms génériques تُطلق على عدة أشياء تدخل في نفس الجنس  genre. هذا النوع من الكلمات موجود بكثرة في القرآن الكريم، وعلى رأس هذه الكلمات الواسعة المعنى، كلمة "شيء". وكلمات "أعناب"، "نخل"، "زيتون" و"رمان"، كلمات جامعة وهي الأخرى، في الآية السالفة الذكر، إشارات للتَّنوُّع البيولوجي.
3."الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ" (طه، 53). الإشارة للتَّنوٌّع البيولوجي، في هده الآية، متضمَّنة في "نبات شتى". فعندما نقول "نبات"، فالأمر يتعلَّق بكلمة تشمل جميع أنواع النباتات. وعندما نقول "شتى"، فالأمر يتعلَّق بنباتات مختلفة.
4."وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ" (الحج، 5). الإشارة للتَّنوع البيولوجي، في هذه الآية، متضمَّنة في "من كل زوج بهيج". "من كل" تعني من جميع الأنواع. "زوج" تعني النبات الذكر والنبات الأنثى. "بهيج" تعنى يُعجِب الناظرين.
 
5."أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ" (الشعراء، 7). في هذه الآية، الإشارة للتَّنوُّع البيولوجي متضمَّنةٌ في "من كل زوج كريم". "من كل"، كما سبق الذكر، تعني من جميع الأنواع. "زوج"، كما سبق الذكر، تعني النبات الذكر والنبات الأنثى. "كريم" تعني فيه منفعة للناس.
6".وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (النور، 45). هذه الآية كلها إشارة للتَّنوُّع البيولوجي في عالم الحيوان وخصوصا كلمة "مَن" و"يخلق اللهُ ما يشاء". "مَن" تعني جميع الدواب التي تمشي على البطن وهي الزواحف reptiles. وتعني كذلك جميع الدواب التي تمشي على رجلين وهي الطيور oiseaux ومن ضمنها الإنسان (لأن الإتسانَ يدبُّ في الأرض). كما تعني كذلك جميع الدواب التي تمشي على أربعة أرجل وهي الثدييات mammifères.
7."سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ" (يس، 36).في هذه الآية، الإشارة إلى التَّنوُّع البيولوجي متضمَّنة في "خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا". لقد سبق أن فسَّرتُ ما معنى الزوج في الفقرتين أعلاه رقم 4 و  5. لكن ما يُثيرُ الانتباهَ في هذه الآية هو "ومما لا يعلمون". 
وهذا الجزء من الآية يُحِيلنا على ما قلتُه أعلاه، أي أن العلمَ الحديث لم يتعرَّف، إلى حد الآن، إلا على نسبة ضعيفة من ما هو مُقدَّرٌ وجودُه في الطبيعة من الكائنات الحية، وهو، كما سبق الذكر، رقم يناهز 40000000 نوع. وهذا يعني أن العلم ليس له معرفة بالأغلبية الساحقة من الكائنات الحية، ناهيك عن تلك التي تُكتشفُ يوميا وتلك التي ستظهر لاحقا. ألم يقل سبحانه وتعالى : "يخلق ما يشاء" ويخلق "مما لا يعلمون".