عبد الحليم بنمبارك:المحروقات بين مسؤولية مجلس المنافسة والحكومة

عبد الحليم بنمبارك:المحروقات بين مسؤولية مجلس المنافسة والحكومة عبد الحليم بنمبارك
هل يمكن اعتبار الرأي الاستشاري لمجلس المنافسة بشأن ملف المحروقات المتفاقم أقصى ما يمكن تقديمه؟ أم أن هناك دوافع أخرى غير معلنة تفرض تأجيل معالجته إلى حين ؟؟؟.
مناسبة السؤال أملته الخرجة الأخيرة لمجلس المنافسة للإدلاء برأيه في هذا الموضوع، والإجابة على سؤال حول ما إذا كان الارتفاع المسجل في السوق الوطنية يعزى إلى عوامل خارجية متعلقة بتصاعد أسعار منتجات الغازوال والبنزين المستوردة، أم داخلية ذات صلة بممارسات يحظرها قانون 104.12، لاسيما الاتفاقات أو حالات الاستغلال التعسفي لوضع مهيمن.
وهذا الرأي يندرج ضمن الاختصاصات الاستشارية المخولة لمجلس المنافسة، وليست الاختصاصات التنازعية له، من خلال تأكيده على أنه: "سيبت فقط في المسائل المتعلقة بالمنافسة ذات الطابع العام، ولن ينكب على التكييف القانوني للسلوكيات والممارسات التجارية للفاعلين في السوق".
يتساءل الرأي العام والفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين عن مدى قيمة هذا الرأي وطبيعة مقتضياته. ففي مثل هذه الظرفية الحرجة، هل نحن بحاجة إلى مجرد رأي واستشارة أم إلى تدخل عاجل يستدعي من مجلس المنافسة، كهيئة دستورية للرقابة والحكامة الجيدة، الانتقال إلى مباشرة صلاحياته في التحقيق وردع الاحتكار والممارسات المنافية للمنافسة والأعمال التجارية غير المشروعة؟.
المطلع على رأي مجلس المنافسة لا يجادل في قيمته من حيث مضامينه المثيرة والمتميزة. فقد قدم لنا دراسة تقنية تحليلية رصينة لوضعية سوق المحروقات ببلادنا خلال الفترة الممتدة ما بين 2018 والربع الأول من 2022، حيث قام بتقييم تأثير ارتفاع الأسعار دوليا على سعر بيع الغازوال والبنزين وطنيا، مع تحليل بنية هذه الأسواق وخصوصياتها وافتحاص سيرها في مراحل التموين والتخزين وعلى مستوى شبكات التوزيع، والجبايات وغيرها، بالاستناد على بيانات ومعطيات صادرة عن وزارة الاقتصاد والمالية ووزارة الانتقال الطاقي، مكتب الصرف، و أخرى لمنظمات مهنية (تجمع النفطيين المغاربة والجامعة الوطنية لأرباب ومسيري محطات الوقود بالمغرب) وفاعلين اقتصاديين (شركات توزيع المحروقات).
وخلص المجلس إلى مجموعة من الخلاصات والتوصيات أهمها:
-الإقرار باستفادة شركات التوزيع من تهاوي الأسعار في السوق الدولية لمضاعفة هوامشها الصافية. فخلال سنتي 2020 و 2021 شهدت هوامش ربح جميع الفاعلين زيادات حادة متجاوزة سنة 2020، سقف درهم واحد للتر، فيما انفردت شركات أخرى بتسجيل 1،25 درهم للتر وأخرى 1،40 درهم للتر. وقد لوحظ أن هذه الشركات فضلت مضاعفة هوامش ربحها عوض الزيادة في حصصها السوقية باعتماد تخفيضات هامة في أسعار البيع.
-اعتبار أن المنافسة على أسعار البيع في سوق الغازوال والبنزين كانت شبه غائبة أو تم إبطالها؛
-مواصلة بنية الأسواق وسير المنافسة فيها على نفس المخطط الإداري للتقنين والإطار القانوني والتنظيمي الذي يعود لسنة 1973 وبنفس الفاعلين وبنفس الصيغة في تحديد أسعار البيع من طرف السلطات العمومية، رغم تحرير أسعار الغازوال والبنزين سنة 2015.
وإذا كان مجلس المنافسة قد جازف بالتعبير عن رأيه الصريح وما تضمنه من خلاصات صادمة، فلاشك أنه رغب في رفع الحرج عنه أمام الرأي العام في مسعى للخروج من الدائرة الرمادية التي ظل يتقوقع فيها لسنوات.
فماذا إذن بعد التحليل والاستنتاج وإبداء الرأي؟ ألم يكن من واجب المجلس، كما تخوله مقتضيات الفقرة الأولى من المادة 4 من قانون مجلس المنافسة، حق النظر في الممارسات التي من شأنها المساس بالمنافسة الحرة في قطاع المحروقات واتخاذ التدابير اللازمة لذلك، باعتباره يتمتع بسلطة تقريرية في هذا الشأن؟ عوض الاكتفاء بتقديم استشارات، سؤال طرحه كافة المتتبعين والمهتمين.
هذه المسألة تذكرنا بتصريح سابق للرئيس الحالي لمجلس المنافسة أكد من خلاله أنه سيعيد فتح ملف المحروقات بعد صدور القانون المعدل المنظم لمجلس المنافسة وقانون حرية الأسعار والمنافسة، علما أن توصيات المجلس لم تتضمن أية إشارة بالدعوة لتسريع إخراج هذه القوانين لحيز الوجود. مشددا أنه: "في حالة وجود تجاوزات سيقوم المجلس باتخاذ إجراءات صارمة". لكن متى وكيف؟
لقد ظل هذا الملف الشائك، أساسا بعد التحرير الكامل لأسعار بيع الغازوال والبنزين سنة 2015، يراوح مكانه بين المذكرات والتقارير والدراسات والتوصيات واللجان الاستطلاعية، مع تسجيل تخبط لمجلس المنافسة في معالجته، وذلك بمناسبة توجيه الرئيس السابق لمجلس المنافسة مذكرتين (يوليوز 2020) إلى جلالة الملك حول "التواطؤات المحتملة لشركات المحروقات وتجمع النفطيين بالمغرب". وبقية القصة معروفة. ما يفيد أن هناك تقاعسا كبيرا بل غياب إرادة حقيقية لتفعيل مقتضيات القانون في ملف المحروقات وما يعرفه من تجاوزات ومطالب ملحة بشأن زجر المخالفين.
لقد اعترف المجلس بالمناسبة بأن هناك ممارسات منافية للمنافسة وأعمالا تجارية غير مشروعة، عندما أشار بشكل عميق ودال على أن: "المنافسة على أسعار البيع في سوق الغازوال والبنزين كانت شبه غائبة أو تم إبطالها". فالأمر هنا يقتضي تسمية الأشياء بمسمياتها، بالإشارة إلى وجود اتفاقات وحالات استغلال لوضع مهيمن. وليس الاكتفاء بتلميحات.
هذه الخلاصة كانت تحتاج إلى تدقيق وتحليل صريح، مع التذكير بالمقتضيات القانونية المؤطرة لذلك، بالأساس أحكام المادة 6 من قانون حرية الأسعار والمنافسة التي تحظر "الأعمال المدبرة أو الاتفاقيات أو الاتفاقات أو التحالفات الصريحة أو الضمنية كيفما كان شكلها وأيا كان سببها عندما يكون الغرض منها أو يمكن أن تترتب عنه عرقلة المنافسة أو الحد منها أو تحريف سيرها في السوق"، كما أن المجلس أبقى على علامة استفهام، حينما صمت وغض الطرف حول ما يستوجب اتخاذه من مساطر وتدابير وإجراءات بهذا الخصوص.
المثير في هذا الرأي، أن مجلس المنافسة ألقى بالكرة في ملعب الحكومة محملا إياها، وبشكل مباشر، المسؤولية الكاملة عن هذه الوضعية بتجاهلها للفوضى في قطاع المحروقات، وتذكيرها بواجب تحريك المسطرة بخصوص تقييم شرعية ممارسة وعلاقتها بقانون المنافسة.
لعل أبرز نقطة مرتبطة بمسؤولية الحكومة تتعلق بالإطار القانوني والتنظيمي المقنن لقطاع المحروقات (قانون 1973) الذي أصبح متجاوزا. الواضح أن الحكومة لم تحرك ساكنا في هذا المجال بل تركت القطاع يتخبط في مشاكل تنظيمية مع ما يثيره ذلك من إشكالات مخلة بالتنافسية.
فرغم صدور قانون جديد رقم 67.15/2015 المعدل لقانون 1973، فإنه لم يدخل لحد الآن حيز التنفيذ، وذلك بسبب عدم إصدار النصوص التطبيقية له، مما يثير علامات استفهام حول دواعي تقاعس حكومات بنكيران والعثماني وأخنوش في هذا الشأن.
وفي خطوة لافتة، أعاد مجلس المنافسة الحديث عن المصفاة الوحيدة بالبلاد شركة "سامير"، بدعوته دراسة فرص الحفاظ وتطوير نشاط التكرير بالمغرب وحثه على إجراء بصفة استعجالية لدراسة اقتصادية وتقنية معمقة بهذا الشأن. فهل من مستمع؟
ولم يتوقف المجلس عند هذا الحد، بل أوصى بإقرار ضريبة استثنائية على الأرباح المفرطة لشركات استيراد وتخزين وتوزيع الغازوال والبنزين، ليكون بذلك قد جدد التأكيد على أن شركات المحروقات تحقق هوامش ربح واسعة، في غياب تام لآليات المنافسة الشريفة.
لم يكن المجلس أيضا رحيما بالحكومة حينما حملها مسؤولية هذه الوضعية، معتبرا أن الحالات التي يمكن فيها لمجلس المنافسة تقييم شرعية ممارسة وعلاقتها بقانون المنافسة والمشروطة بتفعيل المسطرة الحضورية تكمن فقط في الإحالة التنازعية التي تتقدم بها الإدارة من بين هيآت أخرى.
أن يخرج مجلس المنافسة أمام الرأي العام باستنتاجات وخلاصات صادمة تكشف مسؤولية الحكومة عن الواقع الراهن لملف المحروقات أمر في غاية الأهمية ونقطة تسجل لصالح المجلس. لكن هل يمكن اعتبار الكشف عن بعض خبايا هذا الملف كافية؟ فهو كمؤسسة دستورية لا يمكنه التملص من مسؤوليته المباشرة عن ضمان شروط المنافسة الشريفة والتدخل لردع الممارسات غير المشروعة، وفق الاختصاصات المخولة له.
إن الظرفية الاقتصادية الحرجة التي تمر بها بلادنا بسبب أزمة سوق المحروقات باتت تفرض على الحكومة ومجلس المنافسة مسابقة الزمن لتنظيمه، واتخاذ تدابير استعجالية أكثر جرأة ونجاعة وفاعلية وشفافية. فأي تأخير لن يزيد الوضعية إلا استفحالا. 
 
عبد الحليم بنمبارك،باحث مختص في شؤون ضبط ومراقبة السوق