مراكشي: الطبقة الوسطى بالمغرب.. الحلقة المفقودة

مراكشي: الطبقة الوسطى بالمغرب.. الحلقة المفقودة ابراهيم مراكشي
تشكل الطبقة الوسطى بالمغرب المفتاح لتفكيك مسببات العديد من الآفات السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يتخبط فيها المغرب؛ من نمط الاستهلاك إلى البطالة، إلى ضعف المشاركة السياسية، إلى الاحتقان المجتمعي، مرورا بالأمية وصولا إلى فشل مشاريع الإصلاح ومعيقات التغيير المجتمعي.. إلخ
في كل هذه الآفات، وغيرها، نجد للطبقة الوسطى ضلع أو أضلع فيها. 
فمثلا، لا أحد يجادل في كون الصحة والتعليم ركيزتان أساسيتان من ركائز التنمية، وبدونهما يستحيل أن يتقدم المغرب في مراتب مؤشرات التنمية البشرية. بيد أنه من بين الأسباب الرئيسية للتعثرات الذي تشهدها هذه القطاعات الاجتماعية نجد النقص الكبير في الكوادر والأطر، أي ما يعني بصيغة أخرى الطبقة الوسطى؛ ومن أجل تحفيز وتنشيط الاستهلاك الداخلي، الدولة في حاجة إلى طبقة وسطى عريضة ومتينة؛ وكذلك من أجل تدعيم صناديق التقاعد وعموما أنظمة الرعاية الاجتماعية، تحتاج الدولة إلى مساهمات الطبقة الوسطى؛ ومن أجل الحفاظ على الاستقرار المجتمعي تشكل الطبقة الوسطى حجر الزاوية؛ وهكذا...
تعد الطبقة الوسطى الحلقة المفقودة لتفسير أسباب فشل العديد من المشاريع التنموية بالمغرب. لا أحد يجادل في كون المغرب يتقدم، لكن  من سمات تقدمه البطء والقطاعية والنسبية، إذ لا يشمل  كل تراب المغرب، وثماره لا يتساقط على جميع المغاربة. إن المشاريع التي لا تساهم في تنمية الإنسان، وفي إخراج مئات الآلاف من المغاربة سنويا من الفقر لا تدرج ضمن دائرة المشاريع التنموية، بل هي في الواقع، مشاربع خاصة تصب في مصلحة أصحابها، حتى وإن اكتسبت الصبغة العمومية وصفة المنفعة العامة، مادام المستفيدون منها أقلية. إن المشاريع التي تغلف بصفة المنفعة العامة، غالبا ما تخفي في جوهرها منفعة خاصة سواء لفرد أو لشركة أو لمجموعة ضاغطة. والمثير أن تمول مثل هذه المشاريع  بأموال عمومية.
إن أدوار ووظائف الطبقة الوسطى بالمغرب، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالغة الأهمية، وبدون تفعيل هذه الأدوار يصعب، وكما قلنا، أن يترقى المغرب ويتقدم في سلم مؤشرات التنمية البشرية، إن لم يكن ذلك مستحيلا.
إن تعريف الطبقة الوسطى، وتحديد معايير تصنيفها، يعدان من المعيقات الأساسية في هذا الباب، وهذا الإشكال يبقى محل جدل وخلاف بين الباحثين المستقلين والباحثين التابعين للمراكز والمؤسسات الرسمية، كالمندوبية السامية للتخطيط أو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. ذلك أنه من خلال تحديد هذه المعايير يتم قياس حجم الطبقة الوسطى من التركيبة المجتمعية، ومدى تمددها أو تقلص قاعدتها العددية.
تعمد الجهات الرسمية إلى تبني التعريفات الواسعة وإلى اعتماد المعايير الفضفاضة في تعريف وتحديد الطبقة الوسطى، وذلك بهدف توسيع قاعدتها العددية وتمددها داخل النسيج المجتمعي، رغم أن الدولة على أرض الواقع، تتخذ قرارات وتتبنى استراتيجيات كانت وبالا على الطبقة الوسطى، وأدت إلى تآكلها. فكلما توسعت نسبتها في الهرم السكاني، إلا واعتبر ذلك مقياسا لنجاح الدولة في برامجها ومشاريعها التنموية، وعلى انحسار معدل الفقر؛ وأما العكس، أي التقلص في أعدادها ومستوياتها، فهو دليل على فشل الدولة. 
إن تراجع الطبقة الوسطى، وتقلصها، لا يمكن تفسيره سوى بانزلاق أفرادها نحو الطبقة الفقيرة. 
هكذا وبالاعتماد على أحد هذه المعايير الفضفاضة، معيار متوسط النفقات، توصلت المندوبية السامية للتخطيط على  أن الطبقة الوسطى تمثل 54 في المائة من إجمالي عدد سكان المغرب. وهو رقم مثار خلاف وجدال، مبالغ فيه، ويكذبه الواقع بكل تأكيد.
الواقع، هو أنه بعد الجائحة، أعداد الفقراء في ارتفاع، ودائرة الفقر في اتساع، رغم اعتماد الدولة في دراستها للفقر وترتيب أصنافه على معايير تعمد إلى تقليصه، لكن المُعاش يكذب المعطيات الرسمية بالملموس.
يمكن أن يشكل الاعتماد على معيار الأجر، والتركيز من خلاله على الاستهلاك، معيارا مناسبا لتعريف وتحديد الطبقة الوسطى في المغرب، لكن ينبغي أولا أن يتم تحديد سقف موحد للأجر؛ رغم ما قد تثيره هذه المسألة من صعوبات وتعقيدات عملية وميدانية، نتيجة الاختلاف البين بين الأجور في القطاع العام عن القطاع الخاص، واتساع القطاع غير المهيكل، وصعوبة إحصاء الدخول غير الأجرية. لهذه الأسباب، ينبغي ربط معيار الأجر بنمط ومستوى المعيشة، وبالتكوين والمستوى الثقافي حتى نقارب ونقترب من النسبة الحقيقية للطبقة الوسطى بالمغرب.
​إن استراتيجية الدولة في هذا المضمار، وتحديدا الأقلية المتحكمة بدهاليزها (راجع مؤلفنا المقدمة: الأقلية المتحكمة بالمغرب،  2019)، تحرص على أن تظل الطبقة الوسطى هشة في المغرب، محاصرة ومضيق عليها، وأفرادها يشعرون بعدم الأمان، ومهددين دائما بالانزلاق نحو الطبقة الفقيرة، لأنها، -أي هذه الأقلية-، تدرك جيدا على أن الطبقة الوسطى عامل استقرار، وشرط لإنجاح الانتقال الديمقراطي، ومحرك محوري للتغيير والإصلاح المجتمعيين. وتحقق هذا السيناريو إلى أرض الواقع كفيل بهدم قلعة مصالحها. رغم ما تبديه الأقلية المتحكمة من مظاهر القوة والتسلط والتحكم بمفاتيح الاقتصاد الوطني، إلا أن القلعة التي تتحصن بها شيدتها من رمال البحر، قد تنهار في أية لحظة.
لتفادي عوامل ومسببات ذلك، تعمد هذه الأقلية المتحكمة، كل ما في وسعها، على إبقاء الجمود خاصية المغرب، سواء في حراكه وتدافعه المجتمعي الذي يقود إلى التغيير الإيجابي، أو في نسقه الحزبي، حتى لا يؤدي إلى إصلاح سياسي حقيقي، غير صوري في شكله وومظهره ومؤسساته. بصيغة أخرى، الجمود المجتمعي الذي يعيشه المغرب مرآة للجمود السياسي، وانعكاس له، وكلاهما وجهان لعملة واحدة.
لطالما كانت الخصائص المميزة لظروف عيش الطبقة الوسطى بالمغرب تتسم بعدم الأمان؛ فكلما شعرت الأقلية المتحكمة بتهديد وجودي، إلا وعرضت الطبقة الوسطى لصدمات أفقدتها الاستقرار المالي والمعنوي. فعقب كل انتفاضة كبرى شهدها المغرب، أو حادث هز كيانه، إلا وتمت معاقبة الطبقة الوسطى بقرارات غير اجتماعية تشد عليها الخناق اجتماعيا واقتصاديا. نلاحظ ذلك على سبيل المثال بمناسبة القرارات التي تلت انتفاصة مارس 1965، أو انتفاضة "الخبز" يناير 1984، وغيرهما... عقب كل انتفاضة يتم معاقبة الطبقة الوسطى، ولعل المثال الحي الذي ما يزال عالقا في الأذهان، القرارات التي اتخذتها حكومة بن كيران، بعد أن خف هدير حركة "20 فبراير"، هذه القرارات استهدفت الطبقة الوسطى تحديدا، رغم تعالي أصوات معارضة لها من البيت الداخلي لحزب العدالة والتنمية.
رغم أنه لولا هذه الحركة، ما كان "متأسلمو" هذا الحزب يحلمون يوما بمنصب رئاسة الحكومة.
على مر العقود، تعرضت الطبقة الوسطى في المغرب لصدمات أفقدتها الكثير من استقرارها المالي، وظل عدم الأمان شعور يرافقها.
الأقلية المتحكمة بالمغرب لا تخاف من احتجاجات وانتفاضات الطبقة الفقيرة، مثلما تهاب خرجات الطبقة الوسطى. الفقراء حينما يتظاهرون وتتعالى أصواتهم احتجاجا على وضعيات بذاتها، يتم ذلك بشكل تلقائي، وبلا أهداف تؤطرها، ولا تنظيم يحكمها، ويسهل إسكات أفواههم. ما قد يمنح التنظير وحسن التنظيم لهذه الاحتجاجات،  ويوسع من زخمها ومداها، ويخلق الترابط بين عناصرها، هو نزول الطبقة الوسطى للشارع. نذكر ضمن هذا السياق، أن التنظير والتأصيل الفكري يكاد يكون ممارسة احتكارية ووظيفية للطبقة الوسطى.
البون شاسع بين خصائص الطبقة الوسطى في المجتمعات الغربية، عن نظيرتها المغربية. الطبقة الوسطى في الدول المنقدمة ميسورة الحال، وعلى قدر عال من التعليم، ومن الاستقلالية، وتشكل ما لا يقل عن 60٪ من تركيبة المجتمع؛ وحتى الفقر والفقراء في مفهومه وعناصره وأفراده، يختلف عن ما هو سائد في المغرب. إذ في هذه البلدان، وبعد مخاض عسير وتدافع وحراك اجتماعي تم التعاقد مجتمعيا على توزيع نسبي عادل لعائدات الثروة. في المقابل، نجد الطبقة الوسطى في المغرب تنزلق تدريجيا نحو الفقر، كيف ذلك؟
منذ استقلال البلاد والطبقة الوسطى تقاوم الصدمة تلو الأخرى. لقد أنهكت كثيرا، واستنزفت، فلم يعد بمقدورها أن تؤدي أدوارها ووظائفها الطبيعية.
مسألة اعتيادية أن تختلف الطبقة الوسطى عن الطبقة الفقيرة في الأهداف والامكانيات والطموحات، وأن تكون مشاكل كل طبقة لا تعبر بالضرورة عن مشاكل الطبقة الأخرى، سواء من حيث شكلها أو طبيعتها. بيد أنه في المغرب، وبالاعتماد على معيار نمط ومستوى العيش نجد معظم أفرادها أقرب إلى الطبقة الفقيرة منه إلى الطبقة الوسطى، يتقاسمون مع الفقراء العديد من الخصائص، ونفس المشاكل ونفس الهموم. ما نريد قوله ببساطة وباختصار شديدين، هو أنه في المغرب لا فروقات واضحة تميز الطبقة الوسطى عن الطبقة الفقيرة.
في المغرب، نجد أن الطبقة الوسطى ليس على قلب رجل واحد، لقد تمكنت الأقلية المتحكمة بالمغرب من اختراقها وتفتيتها على امتداد سنوات، وبواسطة قرارات رسمية، ظاهرها المنفعة العامة، وباطنها المنفعة الخاصة، استهدفت تقزيم الطبقة الوسطى. علينا أن نعي جيدا، أن اتساع قاعدة الطبقة الوسطى في المغرب لتشكل، كما في الدول الديمقراطية المتقدمة، ما يعادل 60 في المائة على الأقل من تركيبة المجتمع، خطر وجودي عليها. وللأسف، فإن كل من الطبقة الوسطى والطبقة الفقيرة غير واعية لطبيعة هذا الصراع الطبقي، وغير  مدركة لخطورة أبعاده.
لقد تمكنت هذه الأقلية، والتي تعكس خميرة الطبقة الغنية،(راجع مقالنا المعنون "الطبقة الغنية بالمغرب: عامل تقدم أم عامل تأخر؟"، والمنشور في جريدة الوطن الآن، العدد  939، ليوم 18 ماي 2022)، من تفريق الطبقة الوسطى، وخلق عداوات واستحكامها ببن أفراد هذه الطبقة. فالطبقية مستحكمة في الطبقة الوسطى، وصارت واضحة للعيان، إذ نجد فئة ضئيلة عدديا يمكن وصفها بالطبقة الوسطى الميسورة، وهي التي يجتمع فيها فعلا خصائص الطبقة الوسطى الحقيقية؛ تليها طبقة وسطى متوسطة الحال، وهي تمثل شريحة واسعة، لا يمكن الاستهانة بها عدديا، ثم أخيرا طبقة وسطى فقيرة، وهذه الفئة تشكل السواد الأعظم.
من بين الخصائص التي تميز الطيقة الوسطى هي قدرتها على الادخار. ما يدفعنا أكثر إلى تأكيد انزلاق الطبقة الوسطى نحو الفقر، أي اتساع شريحة الطبقة الوسطى الفقيرة، هو فقدانها لقدرتها على الادخار، وهو الوضع الذي أصبح أكثر حدة بسبب مضاعفات جائجة كوفيد-19. لقد تم استغلال ظروف هذه الجائحة لضرب الطبقة الوسطى في العديد من مصالحها ومكتسباتها، والتي بذلت في سبيلها الغالي والنفيس، وخاضت نضالات بطولية، وقدمت من أجلها العديد من الشهداء. إن الأقلية المتحكمة لا تريد القضاء نهائيا على الطبقة الوسطى، لأنها تدرك خطورة ذلك، إذ إنها تضعها في مواجهة مباشرة مع الطبقة الفقيرة، بل تريد أن تقلص من حجمها إلى الحدود التي لا تشكل فيها خطرا عليها.
كيف يمكن الحفاظ على الطبقة الوسطى؟ ودعم تماسكها، ونسقها، وتوسيع قاعدتها الهرمية؟
الأمر رهين بتدعيم وتقوية قدرتها الشرائية، ومحاربة جميع أشكال التمييز والإقصاء ضد المرأة، والرفع من جودة التعليم والتكوين المهني، وتحسين العرض الصحي وجودته، والنهوض بالأنشطة الاقتصادية، والعدالة المجالية، ودمقرطة استخدام التكنولوجيا، إلخ. وفي هذه المجالات، نجد أن السياسات الحكومية المتعاقبة متذبذبة، افتقرت إلى النجاعة والفعالية، ومردوديتها ضعيفة. الآن ندرك أحد أهم أسباب "الفشل" الذي يسجله المغرب في هذه المجالات الحيوية السالفة الذكر؛ ولم المغرب يتقدم ببطء شديد في انجازها، في وقت يحقق أرقاما متقدمة، أشبه بالمعجزات في القطاعات الأخرى، والتي تهم مصالح الأقلية المتحكمة واستثماراتها، وفي مقدمة هذه القطاعات، نجد القطاع البنكي والاتصالات، والموانئ، وصناعة السيارات وصناعة الطيران المدني، والطاقات المتجددة، إلخ. يفترض أن يكون العقل المدبر والمسير لهذه القطاعات الناجحة، هو نفسه المشرف على تدبير قطاعات مثل التعليم والصحة، والتي يسجل فيها المغرب تأخر كبير. فكيف يمكن تفسير هذا التناقض؟ الكلمة-المفتاح لتفسير ذلك هي: الطبقة الوسطى.
ابراهيم مراكشي ،أستاذ جامعي بكلية الحقوق طنجة